داوود خير اللهلذلك، على الرغم من أنّ المواثيق الدولية، وفي طليعتها ميثاق الأمم المتحدة الذي يعتمد «مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها» لا تزال قواعد شريعة الغاب في وضع مهيمن في ما يتعلّق بممارسة السيادة بين الدول، ومبدأ المساواة لا يعدو كونه حبراً على ورق. فهناك الكواسر من الدول التي تتمتّع بسيادة مطلقة ولا روادع ولا حدود لممارستها القوّة في حماية ما تراه حقّاً أو مصلحة لها ولو كان اللجوء إلى القوّة يخالف مواثيق دولية أو حتّى يمثّل جرائم حرب أوجرائم بحق الإنسانية. وهناك دول لا تتمتّع بالقوّة الاقتصادية أو العسكرية التي تتمتّع بها الدول العظمى، لكنّها تتصرّف كالجوارح في فرض مشيئتها اغتصاباً لحقوق الضعفاء من الدول والشعوب، وذلك لأنّها تتمتّع بحماية الدول المقتدرة وتشجيعها، وإسرائيل مثال على هذه الدول.
وهناك دول وشعوب، وخاصة في العالم العربي، هي في وضع المتلقّي وليس في سلوكها ما يدلّ على الحدّ الأدنى من ممارسة السيادة في الدفاع عن حقوقها ومصالحها. القوّة بوجهيها المادي والمعنوي، أي العسكري والاقتصادي من جهة، ودرجة النضج السياسي خاصة في ما يتعلّق بإدراك العوامل التي تعزز الوحدة والتعاضد داخل المجتمع وتفرض احترام الدول الأخرى من جهة ثانية، هذه القوّة هي من أهمّ العناصر التي ترسم حدود النجاح في ممارسة السيادة. ترتيباً على ما تقدّم، نحاول الآن تقويم ممارسة لبنان لسيادته، إن لجهة الاستئثار بحكم ذاته، أو لجهة الدفاع عن حقوقه ومصالحه.
الاستئثار بالحكم الذاتي هو في الواقع الاستئثار باختيار القوانين التي ترعى حياة المواطنين والمقيمين على أرض الوطن واختيار المؤسسات التي تتولّى تطبيقها. نلاحظ بداية ما أصبح أمراً عادياً مميزاً للحكم في لبنان، وهو أنّه كلّما واجه البلد صعوبة في توحيد الإرادة الوطنية تجاه أمر على قدر من الأهمّية، يدخل الوطن في أزمة حكم ولا يرى حكّامه وأولياء الأمر فيه حرجاً في اللجوء إلى أطراف خارجية للتقريب بين أصحاب البيت اللبناني والمساعدة على الخروج من الأزمة. من الصعب إيجاد دليل أكثر وضوحاً من هذه الظاهرة على الشحّ في إدراك معنى السيادة وأهميّة التمسك بها، وخاصة من دعاة الحرص على السيادة والاستقلال. أمّا التعبير عن السيادة المتمثّلة بالإرادة الوطنية في اختيار ممثلي الشعب في وضع التشريعات والقوانين الراعية لمصالحه والحافظة لحقوقه، فهو في الغالب من خلال آلية تحضنها ثقافة سياسية قوامها الفساد والرشوة وشراء الذمم، وفي ذلك تعبير كاف عن مدى احترام الإرادة الوطنية. هذه الإرادة التي تمثّل ركناً أساسياً من أركان السيادة.
ومهما بلغت الحاجة إلى قوانين وأنظمة لمعالجة إشكاليات وتذليل عقبات تهدد المجتمع في وحدته وفي توفير الحدّ الأدنى من التماسك حول المصالح المشتركة وهي من البديهيات التي تميّز مجتمعاً يتطلع إلى تكوين دولة مستقلّة، فإنّ المجتمع ومؤسسات الحكم في لبنان تبقى في حالة شلل وعجز يكاد يعكس مقدار الحاجة إلى اتخاذ الاجراءات الملائمة. مثال على ذلك الحاجة إلى قوانين ومؤسسات تساعد في التخلّص من الثقافة الطائفية والمذهبية الضامنة لتمزيق المجتمع وتهديد أمنه. أو اتخاذ إجراءات وتبنّي قوانين للحدّ من انتشار الفساد وفتكه بجميع مؤسسات الدولة ومعظم المسؤولين فيها. وإذا وجدت قوانين تعالج مثل هذه المواضيع، مهما كان حظّها من الملاءمة لعلاج إشكاليات كبرى، تبقى دون تطبيق أو تعديل، ولو كانت جزءاً من أحكام الدستور اللبناني، كالنصوص التي هدفها إضعاف الطائفية أو إنشاء مجلسين تمثيليين، أو قانون من أين لك هذا الهادف إلى ردع المسؤولين عن الإثراء غير المشروع وإفساد مؤسسات الدولة.
ولا يتصورنّ أحد أنّ تبنّي قوانين ملائمة للتغلّب على التحدّيات الكبرى وحده بقي عصيّاً على مسؤولي الحكم في لبنان وخارج اهتمام نخبه المثقّفة، وخاصة الصانعة للرأي العام. فالدولة وأولياء الحكم فيها عاجزون حتّى عن قانون ناجح للسير يضع حدّاً للفواجع التي تشهدها الطرق يومياً في كل أرجاء لبنان أو تطبيق الموجود من قوانين السير على شحّتها وعدم ملاءمتها.
من الأمثلة التي تتحدّى العقل، لكنّها ذات مدلول مهمّ جدّاً، دشم الاسمنت المزروعة على جوانب بعض الطرقات بهدف منع ركن السيارات، وذلك بسبب عدم قدرة الدولة على تطبيق قوانين أو قرارات تمنع ركن السيارات في شوارع معيّنة أو خلال أوقات معيّنة، ما يؤدّي إلى تضييق الشوارع ومفاقمة أزمة ازدحام السير ويؤكّد عجز الدولة والمجتمع عن إدراك أهمّية تطبيق القوانين حتى في الأمور غير الخلافية.
ولعلّ تبنّي السلطات الوطنية للقوانين الجزائية وتطبيقها حصرياً هما من أهمّ مظاهر ممارسة السيادة. قد تجيز قوانين الدول أن تحكم بعض العقود المدنية أو التجارية التي تطبّق على أرضها قوانين أجنبية، أو أن تفصل سلطة قضائية أجنبية بقانونية عمل يتعلّق بتطبيق تلك العقود، لكن ما من دولة تتمتّع بحدّ أدنى من السيادة تقبل بأن تتولّى سلطات أجنبية التحقيق بجرائم تقع على أرضها أو أن يطبّق على أرضها القانون الجزائي لدولة أخرى. فالقوانين الجزائية هي سيادية بامتياز لما لها من تأثير على الأمن الوطني ومصلحة المجتمع. أمّا في لبنان، فإنّ أكثر المتظاهرين بالحرص على السيادة والاستقلال هم أوائل الذين يمارسون التخلّي عن السيادة لجهة تطبيق القوانين الجزائية، ولنا في عمل لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان أسطع دليل على مدى فهم السيادة والحرص على ممارستها.
انتهكت لجنة التحقيق الدولية قواعد أساسية في التحقيق الجنائي الدولي وقواعد منصوصاً عليها في القانون اللبناني
وقعت جريمة مروّعة على الأرض اللبنانية ذهب ضحيّتها رئيس وزراء سابق، وهو شخصية لها مكانة خاصة لدى معظم اللبنانيين، وسقط فيها عدد من المواطنين. على أثرها شاعت اتهامات حيال المسؤولين عن هذه الجريمة، يتبيّن الآن أنّها صنيعة أطراف لا تريد خيراً للبنان. مهّدت تلك الاتهامات لتعيين مجلس الأمن الدولي لجنة تحقيق دولية لمساعدة السلطات اللبنانية في اكتشاف الجناة. وبالنظر إلى أنّ شكوكاً سرت بأنّ أطرافاً خارجية قد تكون وراء هذا العمل الجرمي، فقد وافقت جميع الأطراف اللبنانية على إنشاء اللجنة الدولية، مع الملاحظة أنّ قرار مجلس الأمن المنشئ للجنة التحقيق الدولية قد حفظ ـــــ بصورة تلقائية وبنصوص صريحة ـــــ السيادة اللبنانية على التحقيق، مؤكّداً أن دور اللجنة هو دور مساعد للسلطات اللبنانية. انتهكت لجنة التحقيق الدولية، تحت إمرة رئيسها الأوّل ديتليف ميليس، قواعد أساسية في التحقيق الجنائي الدولي وقواعد منصوصاً عليها في القانون اللبناني، وخاصة لجهة الحفاظ على سرّية التحقيق وبلوغ استنتاجات قطعية بدون دليل وإعلانها، فيما التحقيق كان لا يزال في مراحله الأولى، فضلاً عن التوصية بتوقيف مسؤولين أمنيين كبار في الدولة بناءً على إفادات شهود زور. فما كان من القضاء اللبناني المسؤول إلاّ أن انصاع لمشيئة لجنة التحقيق الدولية، على الرغم من المعرفة التامة بالوقائع، أو التمتع بالسلطة لمعرفتها كشرط لأي قرار يمكن أن يصدر عنه، وعلى الرغم من السلطة السيادية التي يتمتّع بها في تطبيق القوانين اللبنانية لجهة التوقيف وإخلاء السبيل. هل يعقل أن يحصل مثل ذلك في دولة تعرف معنى سيادة القانون تعبيراً عن إرادة شعبها.
ثم قامت أصوات تطالب بإقامة محكمة دولية لمحاكمة الجناة قبل انتهاء التحقيق. فكان هناك إجماع وطني على طاولة الحوار لإقامة محكمة دولية بحجّة أنّ القضاء اللبناني ليس باستطاعته محاكمة الجناة على أرضه لأسباب أمنية أو سواها. وهذا بحدّ ذاته اعتراف بأن الدولة لا تتمتّع بسيادة كاملة. من أهمّ مبررات إقامة المحاكم الدولية الخاصة التي أقامها مجلس الأمن هو أنّ الجرائم التي ستتولّى هذه المحاكم النظر فيها قد وقعت في دول فاشلة منقوصة السيادة.
وبشأن الأزمة القائمة حالياً بصدد مذكّرات التوقيف الصادرة عن القضاء السوري في دعوى أقامها مواطن لبناني لجأ إلى مراجعة القضاءين السوري والفرنسي بعدما أوصدت بوجهه أبواب العدالة في لبنان، فلو احترمت السلطات اللبنانية سيادة القانون على أرض الوطن لما استسهل مسؤول، أو مواطن عادي، رعاية شهود الزور وعرقلة مجرى العدالة وإدخال لبنان في فتنة طائفية أو مذهبية، ولما اضطرّ مواطن إلى أن يطرق باب العدالة لدى دول أخرى.
ما تقدّم لا يعدو كونه عيّنة عن أدلّة عديدة على أن لبنان لا يعرف معنى السيادة في ما يتعلّق بالاستئثار في الحكم الذاتي داخليّاً. أمّا بالنسبة إلى السيادة بما هي ممارسة القدرة على الحفاظ على الحقوق والمصالح إزاء الدول الأخرى، فحدّث ولا حرج. وسنقتصر على مثال واحد، لكنّه عظيم الدلالة.
بعد سنين قليلة على استقلاله كدولة، ابتلي لبنان بقيام إسرائيل على حدوده الجنوبية التي ما فتئت تمثّل تهديداً مستمرّاً لحقوقه ومصالحه، وبالتالي لسيادته منذ نشأتها. بداية اقتلعت إسرائيل العديد من سكّان الأراضي الفلسطينية التي احتلّتها ودفعت بهم قسراً إلى الأراضي اللبنانية. وهي منذ ذلك الحين لم تكفّ عن الاعتداء على لبنان جوّاً وبرّاً وبحراً. وعوضاً عن أن يدفع ذلك بلبنان إلى التوحّد حول تنمية قدراته الدفاعية كي يتمكّن من الدفاع عن أرضه وشعبه، لجأت النخب الحاكمة فيه إلى ما لا يمكن وصفه إلا بالهذيان السياسي عبر مقولة أن «قوّة لبنان تكمن في ضعفه». سياسة الضعف هذه قضت على ما بقي من مظاهر السيادة في لبنان، فاستباحت إسرائيل أرضه وشعبه ومياهه، وخاصة في صراعها مع تنظيمات من الفلسطينيين الذين حرمتهم إسرائيل العودة إلى ديارهم وأرضهم في محاولاتهم لتحرير الأرض والعودة إليها. وضعف الدولة هذا شجّع المنظمات الفلسطينية على اختيار الأرض اللبنانية قاعدة للعمل المسلّح من دون تنسيق مع الدولة، ما أطاح المؤسسات الأمنية جميعاً وأدخل لبنان في حرب أهلية استمرّت خمس عشرة سنة أدت إسرائيل والمنظمات الفلسطينية المسلحة خلالها دوراً أساسياً إن لجهة الدمار في الحجر والبشر أو لجهة التفكك الداخلي. وما لم تدمّره الحرب الأهلية تولّت آلة الحرب الإسرائيلية القضاء عليه خلال أعمال عدوانية متكررة واحتلال مباشر استمرّ اثنتين وعشرين سنة، فغابت مظاهر السيادة جميعاً.
ولمّا أيقنت فئات من الشعب اللبناني، وخاصة تلك التي كانت أكثر تعرّضاً للاعتداءات الإسرائيلية، غياب الدولة الكلّي في الدفاع عن أرض الوطن وشعبه وعجزها عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، انتظمت في مقاومة الاحتلال وتمكّنت بجهود وتضحيات عزّ نظيرها من تحرير الأرض وإرغام الجيش الإسرائيلي، لأول مرّة في تاريخه، على الانسحاب بلا قيد ولا شرط، فذاق لبنان لأول مرّة منذ أن استقلّ طعم السيادة. القدرة الردعية التي تمكّنت المقاومة اللبنانية من فرضها على إسرائيل، وباعتراف كبار قادتها العسكريين، هي التي منعت وتمنع إسرائيل من الاستمرار في أعمالها العدوانية والتمادي في غطرستها المعهودة في لبنان بالرغم من رغبتها الجامحة في القضاء على سلاح المقاومة. بالنظر لما حققته المقاومة من نجاح في تحرير الأرض وردع العدو وممارسة سيادة فعلية تجاه إسرائيل بالرغم من مناصرة أقوى دول العالم لها، ما هو الموقف المتوقّع من الشعب اللبناني ومسؤوليه تجاه ثقافة المقاومة والتنظيم الذي أثبت جدارة في الدفاع عن الحقوق والمصالح الوطنية؟ المنطق يقضي بأن يرى جميع اللبنانيين في التنظيم المقوم وسيلة ناجحة للدفاع عن أرض الوطن وشعبه وتمكينه من ممارسة سيادة فعلية تجاه المطامع الخارجية فيسعى الجميع إلى تبنّي ثقافة المقاومة والمشاركة الفعلية في كل ما يعزز قدرة لبنان في الدفاع عن أرضه وشعبه. لكنّ الحاصل على الأرض هو عكس ذلك. فقد انطلقت قيادات سياسية ذات إمكانات مالية ونفوذ طائفي توظّفها جميعاً في السعي إلى نزع السلاح وحلّ التنظيم الذي لم يمكّن لبنان من تحرير أرضه من الاحتلال الصهيوني فقط، بل من ممارسة سيادة فعلية في الدفاع عن حقوقه ومصالح شعبه تجاه المصالح والمطامع الإسرائيلية. أعلى الأصوات التي تدّعي الحرص على السيادة والاستقلال هي عينها التي تطالب بنزع السلاح الذي تخشاه إسرائيل. ولهذه الأصوات مواقف ومطالب تتماهى كلّياً مع المواقف والمطالب الإسرائيلية. فهل من شك ـــــ في ضوء هذه الوقائع المريرة ـــــ في أن لبنان لا يعرف معنى السيادة، وهو في غفلة تامة عن أهمّية ممارستها للدفاع عن حقوق ومصالح شعبه؟ وعندما تدعو دول صديقة، وأخرى تدّعي صداقة لبنان، أطرافاً خارجية إلى احترام السيادة اللبنانية، أليس جديراً بهذه الدول أن تدعو أوّلاً المسؤولين اللبنانيين إلى إظهار الحد الأدنى من وعي أهمّية هذه السيادة وممارستها؟
* أستاذ في القانون الدولي بجامعة جورجتاون في واشنطن