كمال ديب*يقترن الهدوء النسبي في الأزمة اللبنانية هذه الأيام بالجهد السوري ـــ السعودي لإنعاش اتفاق الطائف (1989) الذي أطلق رعاية البلدين للبنان في الفترة الممتدة من 1990 إلى 2003.
ثمّة قاعدة جوهرية في السياسة العربية منذ الخمسينيات، هي أنّ سوريا ركن أساسي لأيّ محور عربي يريد قيادة العرب. في فترة 1957 ــ 1961، ضَمَن جمال عبد الناصر موقعه القيادي وكلمته في المنطقة عندما أصبحت سوريا «الإقليم الشمالي» في الجمهورية العربية المتحدة وعاصمتها القاهرة. هذه الصفة القيادية لمصر و«كاريزما» عبد الناصر تراجعتا في الستينيات بعد انفصال سوريا.
اليوم، عندما يتطلّع الاستراتيجيون السعوديون من حولهم سيجدون، كما وجد مستشارو عبد الناصر من قبل، أنّ تحالفاً سعودياً مع سوريا سيجلب فوائد جمّة للمملكة السعودية.

على الصعيد الإقليمي

لا تمثّل السعودية منفردة ثقلاً عربيّاً كافياً لمواجهة النفوذ غير العربي في المنطقة العربية، وخاصة إيران عبر الخليج، فما بالك بالجار التركي شمالاً. ولا يمكن أيَّ كميّة من التسلّح أو من الدعم الأميركي منحُ السعودية هذا الثقل. فقط الشراكة الإقليمية مع سوريا على قيادة العالم العربي يمكنها أن تحقّق ذلك. كما تتمتّع سوريا بعلاقات مميّزة مع أنقرة وطهران، ويمكن أن يحقّق تقاربها مع السعودية وزناً عربياً يكون مكسباً صافياً للرياض على الصعيد الإقليمي.
من جهة ثانية، فإنّ انفراج الوضع الحكومي في بغداد هو نبأ مُفرح لكل العرب، ولكن هل سينهض العراق بسرعة ويعود إلى فعاليته السابقة في الساحة العربية؟ ربما لا، وخاصة أنّ واقعه التقسيمي الداخلي يفرض نفسه. لكنّ العراق يبقى منافساً تاريخياً للسعودية على العلاقة مع سوريا، أكان صدّام حسين في الحكم كما في السابق، أم في ظلّ الخليط الحاكم الحالي الذي إذا متّن الوضع الداخلي سيثبّت في المدى المتوسط ثقل بلاد الرافدين في المنطقة. فالسعودية نافست العراق الهاشمي على سوريا منذ استقلالها عام 1946 وحتى 1958. ومنذ ثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 وحتى اليوم كان العراق، لا سوريا، مصدر قلق دائم للمملكة. فهو هدّد الكويت عام 1961 ثم احتلّها عام 1990، واجتاج جيشه الأراضي السعودية ووصل الى الخافجي عام 1991. ولذلك فالسعودية ستشعر بمزيد من الاستقرار الاقليمي إذا شاركت سوريا الدور في استقرار العراق.
كذلك فإنّ وجود سوريا قويّة بمواجهة إسرائيل هو ذخر استراتيجي مهم للسعودية. وسمح صمود دمشق بوجه إسرائيل منذ 1970 إلى اليوم للسعودية بالوقوف في وجه الضغوط الأميركية لتوقيع سلام منفرد مع إسرائيل وعدم الانحدار في كامب ديفيد وأخواتها منذ 1978. وسوريا القويّة ستمكّن السعودية من الضغط على واشنطن لتضغط بدورها على تل أبيب لتمنح الفلسطينيين حلاً مشرّفاً. وحتى إدارة أوباما لا تريد أن ترى سوريا ضعيفة، وخاصة بعد تجربتها المرّة مع إسرائيل المتعجرفة في مفاوضاتها مع الفلسطينيين وفي تدخّلها عبر جماعات الضغط في السياسة الداخلية الأميركية.
إلى جانب ذلك، فإنّ سوريا بفضل مجاورتها للبنان يمكن أن تمثّل الضامن الأكبر للمصالح السعودية السياسية والاقتصادية فيه، وخاصةً أنّ البلدين، السعودية وسوريا، يرتبطان بتعهدّات قطعاها لحكومة لبنان منذ 1989، وأثبتت أحداث السنوات الأخيرة أنّ غياب «السين السين» منذ 2004 خرّب الوضع في لبنان.

على الصعيد الداخلي

تحتاج المصلحة السعودية إلى استقرار سوريا الداخلي، لأنّ الدولة فيها تشرف على وئام اجتماعي منذ عقود حفظ العلاقات المواطنية بين مذاهب متعدّدة على نحو أفضل بكثير من تجربة لبنان في إدارة تعدديته. كما أنّ سياسة سوريا منذ 1970 كانت الحرص على أمن السعودية وإقامة أفضل العلاقات معها (هذه كانت قاعدة سياسة حافظ الأسد العربية). وقد وفّر ذلك تعاوناً كبيراً في حرب تشرين الأول 1973 ودعماً سعودياً اقتصادياً فائقاً لسوريا بعد الحرب، وتعاوناً سورياً في مكافحة الإرهاب بعد 11 أيلول 2001.

على الصعيد الاقتصادي

إنّ العلاقات الاقتصادية بين السعودية وسوريا هي أكثر من متينة ومتشعّبة. تمتدّ من التبادل التجاري إلى وجود عشرات آلاف السوريين في القطاعات الإنتاجية المختلفة في المملكة وفي عدّة مهن رفيعة. كما أنّ سوريا اصبحت منذ 25 سنة واحة استثمارية هامة للرأسمال السعودي، أكان ذلك في القطاع العقاري أم في القطاعات الإنتاجية.
وتشعب الاستثمار السعودي من العقارات إلى السياحة والخدمات والاتصالات منذ عام 2000 مع تزايد الانفتاح الاقتصادي السوري. وحتى لو وُجدت قيود هذه الأيام على شراء العقارات في سوريا، فإنّ استمرار وتيرة التقارب الحالية ستدفع إلى تخفيفها. وثمّة تصوّر بأن تصبح السفوح الشرقية لجبال سوريا مع لبنان، والمطلّة على الغوطة والتي تمتدّ من سرغايا جوار دمشق إلى فتحة حمص، مزدهرة ومكتظة بالسكان.
كذلك فإن هناك الارتفاع الكبير في أسعار النفط منذ عام. وأسواق الاستثمار في سوريا ولبنان تمثّل منجم ذهب للسعوديين. والسيناريو الحقيقي، لما سيجري، سيضع السعوديين على مفترق طرق اقتصادي تاريخي. لقد صدرت تقارير عدّة عام 2003 عشيّة الغزو الأميركي للعراق تُنذر بأنّ النفط سيبدأ بالنضوب الفعلي ابتدءً من عام 2010 (وقد ذكرنا تفاصيل هذه التوقعات في كتابنا «زلزال في أرض الشقاق»، دار الفارابي، 2003). ومن المتوقّع أن يعاود سعر البرميل الارتفاع ويصل إلى مئة دولار. وعلى السعودية ودول النفط العربية أن تسارع الى استثمار عائدات النفط في سوريا ولبنان ودول عربية أخرى وفي قطاعات حقيقية، وإلا كان مصير هذه العوائد حسابات الادخار وسندات الخزينة في أميركا وأوروبا. ولا تزال مأساة دول النفط العربية ماثلة للأذهان، إذ فقدت عشيّة الأزمة الاقتصادية العالمية قبل عام ونصف 150 مليار دولار. ولذلك، أمام السعودية فرص استثمار ذهبية في سوريا ولبنان. ففي سوريا مواقع استثمار في السياحة والبنية التحتية والمرافق العامة والمصارف وقطاع الاتصالات والتصنيع الخفيف، ومنه تصنيع الأغذية وفي المشاريع الإسكانية. هذا يحقّق أرباحاً هائلة للسعوديين وللسوريين واللبنانيين.
كذلك يمكن أن تضمن سوريا الاستثمارات السعودية في لبنان وهي تتجاوز العقارات إلى التجارة والسياحة والودائع، وكذلك الاستثمار في النظام السياسي اللبناني والعلاقة السعودية التاريخية مع سنّة لبنان منذ تراجع مصر.
خريطة طريق
كيف يمكن الرياضَ ودمشق العودة إلى شراكة الطائف وحلّ مشاكل لبنان الحالية؟
في عام 1989، تشاركت سوريا والسعودية في إنجاز اتفاق الطائف بشأن لبنان. وبموجب الاتفاق تساعد سوريا الدولة اللبنانية في استتباب الأمن ونزع سلاح الميليشيات وإعادة بناء القوات المسلّحة الشرعية وانتخاب مجلس نيابي جديد. في عام 1990، انضمّ الرئيس حافظ الأسد إلى قوى التحالف بقيادة واشنطن لتحرير الكويت، فحصلت سوريا على اعتراف أميركي بدورها في لبنان وعلى وعد باستعادة الجولان عبر المفاوضات وعلى مساعدات مالية.
لكن في عام 2003، رفض الرئيس بشّار الأسد التعاون مع الغزو الأميركي للعراق فدفعت سوريا ثمناً باهظاً. وسرعان ما وضعها المحافظون الجدد نصب أعينهم وبادلوها العداء، فعاشت سوريا سنوات عصيبة من 2004 إلى 2006. وشهدت قوانين معادية لها في الكونغرس الأميركي وتهجّم الرئيس بوش شبه الأسبوعي على الرئيس بشار الأسد وتهديد أميركي بغزو سوريا أيضاً. وصدر آنذاك قرار مجلس الأمن الرقم 1559 في صيف 2004، ودعمت واشنطن تحالفاً لبنانياً مناهضاً لسوريا، وصولاً إلى الأحداث التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005، وصعود حكومة لبنانية مناهضة لدمشق بعد انتخابات أيار 2005، فأصبحت سوريا مطوّقة.

الشراكة مع سوريا، لا التسلّح والدعم الأميركي، هي ما يمنح السعودية الثقل الضروري لمواجهة نفوذ إيران في الخليج
لكن الأمور تغيّرت في صيف 2006 بعد فشل إسرائيل في توجيه ضربة قاتلة لحزب الله. وحاصرت المعارضة اللبنانية حكومة فؤاد السنيورة منذ تشرين الثاني 2006 وقامت بشبه انقلاب في 7 أيار 2008 أوصل لبنان إلى مؤتمر الدوحة وخلق معادلة جديدة، لأصدقاء سوريا فيها حصّة أكبر. لقد أدى أمير قطر بمهارة دور الوسيط، وملأ الفراغ الذي ولّده سوء التفاهم بين الرياض ودمشق. واكتشفت السعودية وسوريا أنّ ما يفعلانه يعكّر مصالح بعضهما البعض في لبنان، وأن من الضروري العودة إلى التعاون السابق الذي كان مريحاً للطرفين. هذه النتيحة فتحت باب التقارب الحالي، ما قد يسمح بالعودة إلى أجواء الطائف التي ضمنت مصالح البلدين في لبنان وضمنت حصّة المسيحيين في الحكم وكذلك حصّة السنّة والشيعة مع دور هام لرجال السعودية ولرجال سوريا في الحكم اللبناني.
وثمّة سيناريوان مطروحان. الأول أن يتعاون رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري مع «السين ــ سين» التي رعت حكم والده زهاء عشر سنوات. ويتفق الجميع على التعامل المنتج لمصلحة لبنان مع المحكمة الدولية التي تحقق في جريمة اغتيال رفيق الحريري، لأنّها تقع في لبّ الصراع الحالي في لبنان. ويخلق التوافق داخل الحكومة فرصة لمبادرة تضمن أنّ المحكمة لن تؤذي طرفاً لبنانياً أساسياً في البلاد.
والسيناريو الثاني هو اعتبار رئيس الحكومة أنّه لن يستطيع السير في حلّ «السين ــ سين»، لأنّه ابن الشهيد وهو مسؤول أمام جمهوره، ويتعامل مع قضية المحكمة الدولية من موقع جرحه الشخصي، ما يجعله يفتقر إلى الحيادية الضرورية لإيجاد حلّ للأزمة المشتعلة داخل الحكومة. وثمّة أطراف في 14 آذار تدفع بعكس توافق «السين ــ سين». وأمام هذه الصعوبات يمكن أن يخرج رئيس الحكومة مؤقتاً من الحكم ويعيِّن مكانه شخصاً آخر من تياره. أو يمكن أن نحصل على رئيس حكومة يتفق عليه السعوديون والسوريون يؤدي المهمة لحين انتهاء العاصفة، ثم يعود بعدها الحريري إثر تحصّن البلد وابتعاد العامل الشخصي. عندها تنجح حكومة جديدة برئاسته في معالجة قضايا الناس التي تنتظر الفرج منذ سنوات، وتثبت السعودية وسوريا أمام اللبنانيين والعالم أنّ «السين ــ سين» وليس أيّ شيء آخر، مستمرّة في لبنان وهي المظلّة التي تحكم علاقات اللبنانيين وتحميهم جميعاً.
* أستاذ جامعي لبناني مقيم في كندا، صدر له أخيراً «بيروت والحداثة» عن دار النهار