لا ينبغي قول الكثير من أجل إثبات أن «انتفاضة 22 آب» (تسمية معقولة) هي، عموماً، حركة احتجاج عفوية، وإنها، من حيث هي كذلك، تفتقر إلى برنامج وإلى قيادة. لا يقلل ذلك أبداً من أهمية المبادرة التي أطلقتها مجموعة «طلعت ريحتكن» والتي كانت فيها سبّاقة ومتقدمة على سواها، وخصوصاً، على «حرِّيفين» و«قادة» يديرون أحزاباً وحركات أو بقايا منها يعود تأسيس أقدمها إلى أكثر من تسعة عقود (الحزب الشيوعي اللبناني – تأسس قبل حوالى 91 سنة).
لا يمنع ذلك من أن يتبلور في مجرى حركة الاحتجاج، إن هي واظبت واستخلصت، قادة ورموزاً، وأن يتحدد هدفها (برنامجها) الذي هو، بالضرورة، آني ومرحلي، وإن كانت تداعيات تحقيقه ستترك بصمة تغيير لا جدال فيها على مجمل الوضع اللبناني، الجامد والمتكلس والمراوح، منذ عقود، في نطاق نظام الانقسام والمحاصصة والتبعية.
لا يُسقط هذا الاستنتاج الأولي من الاعتبار حضور شعارات ومطالب عامة في التظاهرات. وهذه وتلك شعارات سياسية شاملة أو مرتبطة بموضوع الاحتقان الراهن، أي ملف النفايات المتكدسة في الشوارع تجسيداً لعجز سلطة المحاصصة عن إدارة شؤون البلاد، وتكريساً لنهج الصراع الضاري على نهب موارد الدولة من دون حسيب أو رقيب، وتصعيداً وقحاً لنهج احتقار كرامة المواطن وانتهاك حقوقه ومصالحه من دون خشية من غضب أو انتفاضة أو ثورة...
الشعارات التي برزت في تظاهرات الأيام الماضية هي، تحديداً، شعارات أطراف ومجموعات شبابية مناضلة ومسيسة، لم تستطع رغم ذلك، وبوضوح، أن تخفي تشتتها وتنافسها حتى ولو انتمى بعضها، من حيث المبدأ، إلى فكر واحد، وإلى تنظيم واحد: شبابي أو حزبي!
حركة الاحتجاج التي انطلقت، تباعاً، منذ اندلاع أزمة النفايات (بكل ما تعنيه من جشع واحتكار واحتقار)، تذكّر، بشكل أو بآخر، بتحرك «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي انطلق قبل حوالى أربع سنوات. وهي حركة بدأت عفوية، هي الأخرى، لكنها أُثقلت بأعباء الأجندات الحزبية الفئوية ما منعها من أن تواصل تطورها وتوسعها بعد أن تخطى عدد المشاركين، في نشاط الذروة «العفوي» فيها، الثلاثين ألف مشارك ومشاركة. لم يستطع المبادرون يومها الحفاظ على الطابع العفوي الجامع (غير الفئوي) للتحرك، لم يستطيعوا أيضاً صياغة مطالب سياسية واقعية ومتدرجة. ولم يستطيعوا، بالتالي، ضبط الفئويات في نطاق التحرك العام، أي تحت راية مطالبه وبرنامجه وضمن تخطيط وإشراف قيادته لا سواها. تراجع يومها ذلك التحرك (الذي بدأ واعداً) بسرعة كما صعد بسرعة، ليتلاشى من ثمَّ، دون أن يترك إلا المزيد من الخيبة وخصوصاً عندما تكثر بشأنه المشاحنات، وتغيب العبر والدروس والاستنتاجات.
ويذكِّر التحرك الراهن، لجهة شمولية موضوعه على الأقل، بنشاط «هيئة التنسيق النقابية». لكن الهيئة المذكورة تميزت بانطلاقها من مواقع تمتلك الحد الأدنى من التنظيم والشرعية (الرابطات) والحد الضروري من التدبير القيادي وفق برنامج مطلبي كان لا بد من أن يلامس، لاحقاً، واقع السلطة ونظام مافيات المحاصصة الطائفية والمالية في البلاد. بسبب ذلك صمد وتصاعد وتوسع تحرك «هيئة التنسيق النقابية» من الداخل، فاقتضت مواجتهه من قبل سلطة عتاة المحاصصة الانقضاض عليه من الخارج: تجاهلاً ورفضاً لضغوطه الهائلة ومطالبه المشروعة وسعياً لإفشاله، في النهاية، لكي يكون مصيره عبرةً لمن اعتبر!
في مقارنة بين تجربة حركة «الشعب يريد إسقاط النظام» وتحرك «هيئة التنسيق النقابية» أن الأولى افتقدت إلى القيادة السياسية، والثاني إلى الحاضنة السياسية. والقيادة والحاضنة هذان، هما، في مرحلة من المراحل، أمر واحد. وهذا الأمر هو افتقار الحركة الشعبية والحركة المطلبية إلى وجود معارضة سياسية، وطنية وديمقراطية، وذات حضور فاعل وبرنامج مرحلي للتغيير في لبنان. هذا الأمر يتفاقم بعد كل فشل وخيبة ومن مرحلة إلى مرحلة تعقبها. ففي هذه المرحلة تعمقت وتوسعت، خصوصاً، أزمة حزب التغيير الأساسي وأزمة اليسار عموماً. الحزب الشيوعي، مثلاً، يواصل، عبر قيادته الراهنة، تخليه عن إنجازاته العديدة السابقة وعجزه عن تجديد وبناء تجربته الكفاحية وبلورة صيغ عمله الملائمة في الظروف المتغيرة. وهو يئن ويتفكك الآن تحت وطأة مسعى قيادته، الممدِّدة لنفسها قسراً، لتحويله إلى مجرد «دكانة» لبعض الأفراد والمنتفعين، والإصرار على تكريس ذلك في مؤتمر انقلابي وتقسيمي تنشط، الآن، محاولة لتهريبه بأقصى سرعة ممكنة. ويتوزع اليساريون على مجموعات يلتحق معظمها، أفراداً وتجمعات، بطرفي المعادلة السلطوية الطائفية التحاصصية على حساب محاولة بناء الموقع التغييري اليساري الذي يشكل قيامه الممر الإجباري لإنقاذ لبنان ووحدته وسيادته ولمباشرة مسار استقراره وازدهاره...
التحرك الراهن، يواجه في الواقع إذاً، مرحلة أسوأ مما كان الأمر عليه قبل أربع سنوات أو قبل سنة... فقوى التغيير التقليدية في ذروة تحللها وغيابها وانصرافها إلى أمورها الخاصة على حساب دورها العام. يطرح ذلك تحديات ومسؤوليات جسيمة على أي حركة احتجاج يفرضها أو يفرزها الواقع المحتقن والمتردي بسبب ارتكابات الطاقم السياسي الراهن الذي يدير نظام المحاصصة، مستفيداً، إلى عوامل أخرى كما أشرنا، من الفراغ الناجم عن غياب قوى الاحتجاج المنظم ومشروع التغيير الديمقراطي الشامل والجذري. تواصل سلطة المحاصصة والفساد والاحتكار تحديها للمجتمع عبر إصرارها على تعزيز مكاسبها من دون حدود. هي تملك من الخبرة والإمكانيات ما يجعلها مطمئنة إلى قدرتها على إجهاض التحرك الشعبي – الشبابي بكل الوسائل: من القمع الوحشي، إلى الوعود الكاذبة إلى بعض الإعلام المجنّد لخدمة تزييف الحقائق والمسؤوليات، إلى ادعاء الحرص على الاستقرار والتخويف من الأعظم...
غير أن بداية صحوة تتراكم وتتوسع وتكسر الكثير من القيود والحواجز والأوهام. لقد طفح الكيل فعلاً. الأذى يطاول الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. الأصوات الطائفية، رغم ارتفاع ضجيجها، تنكشف بوصفها أصواتاً فئوية تكرس مصالح شبه حصرية لإقطاعيات سياسية قديمة (عريقة!)، أو جديدة حديثة النعمة شديدة الجشع تريد تعويض ما فاتها بكل السبل وبأبشع وأحقر وأقذر الوسائل.
لم يحصل أن استُفزَّ المجتمع اللبناني كما يحصل اليوم. هو سيبقى مستنفراً في امتداد تعمق الأزمة (المتناسلة عن أزمات فشل عام) وعجز القيِّمين على شؤون البلاد والعباد عن حلها إلا على حساب الوطن والمواطن.
لا بد من تكرار التأكيد أن غياب المشروع التغييري المعارض المستقل يضاعف من الخسائر ويقلل من فرص اختراق الأزمة. لكن هذا الأمر لا يجوز أن يستمر طويلاً. لا بد من بلورة صيغة جديدة لعمل يساري موحَّد ومشترك. سيكون أمراً رائعاً أن يجرى تسريع ذلك عبر خطوات تنسيق وتعاون في مجرى وفي وهج التحرك الراهن نفسه. تخطي بعض الحساسيات والفئويات أمر لا بد منه إذا ما كانت الأولوية هي، فعلاً، لقيام مشروع تغيير عام ولبلورة خطواته ومراحله، لا للمشاريع الفئوية والخاصة. التجارب، القريبة والبعيدة، التي أُهدرت فيها الجهود والتضحيات والأولويات الصحيحة، دفعت بعض البلدان إلى الفوضى أو إلى حلول بدائل جديدة تكون أحياناً أسوأ من السلطات المخلوعة. في تجربة قوى التغيير اللبنانية وفي رصيد نضالاتها ومناضليها الكثير مما ينبغي الاستفادة منه والارتكاز إليه: محدثاً ومطوراً ومتحرراً.
البعض يواصل ضخ «ثقافة» التيئيس من التغيير في لبنان. هذا أمر ليس بريئاً بشكل عام: التغيير أكثر من ضروري. وهو يصبح أكثر من ممكن عندما يتبلور مشروع متكامل من أجل ذلك!
* كاتب وسياسي لبناني