حسام تمام*ليس أغرب من ورود جماعة الإخوان المسلمين المصرية ضمن تقرير الحريات الدينية، الذي تصدره وزارة الخارجية الأميركية، سوى رد فعل الإخوان الموافق بل والمرحّب بهذا الوضع. وضع التقرير الأميركي الصادر قبل أيام الإخوان مع الأقباط والشيعة والبهائيّين، ضمن الجماعات والطوائف والأقليات التي تتعرض للتمييز والاضطهاد الديني في مصر. لم تكن هذه المرة الأولى التي ترد فيها الجماعة ضمن هذا التقرير السنوي، إذ بدأ الأمر قبل سنوات. ويبدو أنّ معدي التقرير تأثروا على الأغلب بوجهة نظر الأستاذ جمال البنّا، شقيق مؤسس الجماعة وأحد أبرز خصومها الفكريين، الذي أقنعهم بأنّ التمييز والاضطهاد الديني اللذين يتعرض لهما الإخوان، لا يقلان، بل ربما يزيدان على ما يتعرض له الأقباط. كان رأيه، وهو الذي يدعو إلى إصلاح ديني جذري، مقبولاً، ما أتاح للإخوان المسلمين، أكبر جماعات الإسلام السياسي، الحضور على رأس من تتبنّى الولايات المتحدة الدفاع عنهم ضد الاضطهاد والتمييز! المشكلات بل العثرات المنهجية في التقرير الأميركي كثيرة. يكشف مجملها عن أنّ القائمين عليه يفتقدون كثيراً من الوعي بالسياق الديني والثقافي والاجتماعي المصري، كما يفتقدون المعلومات البسيطة والدقيقة مثل التقدير المتعلق بعدد الشيعة، الذي يقترب من مليون (أي واحد في المئة من السكان) وهو ما لا أصل له في أيّ إحصاء أو حتى تقدير تقريبي مقبول من المتابعين للحالة الدينية في مصر.
للوهلة الأولى يمكننا القول إنّ معدي التقرير وقعوا في خطأ منهجي في نظرتهم إلى الجماعة، فاختلط عليهم الأمر حتى صارت الجماعة مثل طائفة أو فرقة أو أقلية دينية تتعرض للتمييز والاضطهاد بناءً على معتقداتها أو تصوراتها الدينية. لم ينظروا إليها على أنّها جماعة سياسية تعاني مثل تيارات وتنظيمات وتجمعات سياسية أخرى من القيود التي يفرضها نظام تسلطي على الحياة السياسية.
لقد وقع شيء من هذا الخطأ المنهجي فعلاً، وستكون آثاره أكثر فداحةً على الجماعة، على غير ما تعتقد. فهو سيسهم في تكريس عزلها سياسياً حين ينقلها من مربع القوى السياسية إلى الفئات والطوائف الدينية التي ينبغي حماية حريتها الدينية ووقف التمييز الديني تجاهها. لكن هل كان هذا الاقتراب الأميركي محض خطأ منهجي يتحمّل معدو التقرير وحدهم مسؤوليته؟ أم أنّه وليد تحول في الحالة الإخوانية باتجاه متعاظم نحو «التطييف» الذي يفرض التعامل مع الإخوان كطائفة أو حتى أقلية دينية تناضل من أجل الحصول على مطالب خاصة؟
الحقيقة أنّ الاقتراب الذي يتبناه التقرير في التعامل مع الإخوان يحمل خطراً كبيراً، فضلاً عمّا فيه من خلل منهجي. وصاحب المسؤولية الأكبر في هذا الخطأ ليس فقط الخفة والتسرع والانطباعية التي اعتدناها في مثل هذه التقارير ذات الطابع السياسي الأميركي، بل هو الإخوان أنفسهم أيضاً.
ليس للإخوان معتقد أو طقوس دينية مختلفة عن بقية المسلمين من الشعب المصري، وليست لهم حقوق أو مطالب دينية خاصة بهم، أو هكذا يُفترض إلا إذا كان للإخوان رأي آخر. والحظر السياسي أو المنع القانوني ليس خاصاً بهم فقط بل تشاركهم فيه قوى بعضها له مرجعيات دينية أيضاً (الوسط مثلاً). حتى التضييق الذي يعانونه لا يختلف عما يمكن أن تعانيه قوى وتجمعات سياسية أخرى، بعضها لا يؤسس مشروعه على مرتكز ديني، مثل كفاية والجمعية الوطنية للتغيير. لكن يبدو أنّ الإخوان تحوّلوا فعلاً إلى «أمة من دون الناس»، ولم يعودوا تياراً يطمح إلى أن يقود الشارع. لقد اقتربت جماعة الإخوان في العقدين الأخيرين كثيراً من وضع «الطائفة» التي تطمح إلى تحقيق مطالب خاصة بها وتناضل من أجلها، وابتعدت عن أن تكون تياراً أو قوى مجتمعية يمكن أن تتماثل أو تلتقي مع غيرها.
خلق الإخوان مجتمعهم الخاص الأشبه بغيتو مغلق عليهم، له عالمه المختلف في معانيه ورموزه وشعاراته وخطابه وأولوياته المنفصلة عن عموم الناس. ليس مهماً تقويم هذا العالم بقدر ما يهم التوقف أمام تأكيده المتواصل لخصوصيته واستثنائيته ومن ثم انفصاله عن المجتمع. سهل التوقف أمام ظاهرة المآتم أو الأفراح الإخوانية التي تبدو مناسبة تؤكد فيها الجماعة انفصالها حتى في لحظاتها الاجتماعية عن المجتمع، حتى وإن حرصت على أن تتمظهر بمظاهر أكثر حرصاً على الأخلاقية والانضباط.

سيعزل التقرير الجماعة حين ينقلها خارج مربّع القوى السياسية إلى الفئات التي ينبغي حماية حريتها الدينية

حتى المسار السياسي والخبرة التاريخية الإخوانية صارا، في وضع «الطائفة»، أقرب إلى محظور خاص بها لا تقبل مجرد الاقتراب منه بطريقة عادية. ظهر ذلك جلياً في موقفها من مسلسل «الجماعة». لقد كانت لافتةً هذه الروح الطائفية التي تجاوزت نقد مسلسل، يستحق النقد فعلاً وفيه ثُغَرٌ كثيرة، إلى حالة من حالات التطييف التي يصير معها التاريخ جزءاً من خصوصيات الطائفة الإخوانية. انتقلنا إلى وضع أصبح فيه تاريخ الإخوان جزءاً من أسطورتهم الخاصة التي لا يحق لكاتب أو مؤرخ التعرض له دون العودة إليهم، ووفق شروطهم. وإذا لم يفعل يكون قد انتهك حقوقهم وخصوصيتهم الطائفية.
إنّ الاقتراب من المسألة الإخوانية كمسألة طائفية يضر الإخوان أكثر من غيرهم حتى إذا كان يعطيهم نوعاً من الدعم على نحو ما يفعل تقرير الحريات الدينية الأميركي. عند التحليل السياسي، يُضر التقرير بمشروعهم السياسي أكثر مما ينفع، فضلاً عن أنّه لا يمكن التعويل عليه في تعديل موقعهم في الحياة السياسية المصرية. الموقف الأميركي منهم يتأثر بجملة شروط لا تزال غير متوافرة في الجماعة. ولا تزال الأسئلة عنهم لدى صانع القرار الأميركي أكثر من الإجابات، وما لديه من إجابات غير مغر وليس في صالحهم لمن يعرف الأبجديات.
الأفضل لجماعة الإخوان أن تعود إلى حضن المجتمع والناس بدلاً من التمترس وراء وضع «الاستثنائية» الذي يجعلها أقرب إلى طائفة. طائفة تصر على الاختلاف والتمايز مع الجميع: في السياسة حيث هي فوق الحزب ودون الدولة؛ وفي الاجتماع، مع حلم بناء المجتمع الإخواني المتمايز؛ وفي الدين أيضاً حيث الخلط التعسفي والمستفز بين الدعوي والسياسي.
* باحث في شؤون الحركات الإسلامية