همام الرفاعي *المكان: صبرا وشاتيلا، مخيّمان للّاجئين الفلسطينيين قرب بيروت.
الزمان: تشرين الثاني/ نوفمبر 1982 على الأرجح، لكن الشاهد لم يعد متأكداً.
المصدر: صحيفة «فولكسكرانت» (Volkskrant) الهولندية، ومجلة «فراي نيدرلاند» (Vrij Nederland) الثقافية. الشاهد: جورج سلويزر (George Sluizer)، مخرج سينمائي يهودي هولندي مولود عام 1932، أخرج الفيلم الشيق والعميق «الرجل الذي أراد أن يعرف» (L homme qui voulait savoir) عام ١٩٨٨، والإعادة الأميركية السيئة للفيلم نفسه المعروفة باسم «The Vanishing» عام ١٩٩٣. المخرج نفسه والقصة نفسها، لكن الخضوع لديكتاتورية هوليوود التجارية أفقد الحكاية معناها.
الشاهد الآخر: فريد فان كويك (Fred van Kuyk)، مصوّر سينمائي كان قد رافق سلويزر في مهمته البيروتية عام 1982، وقد وافته المنية منذ سنوات.
رواية الشاهد جورج سلويزر للجريمة الموصوفة: التقيت أرييل شارون في بيروت ورأيته يقتل طفلين أمام عينيّ على مقربة من مخيمي صبرا وشاتيلا. شارون أطلق النار على الطفلين كما تطلق النار «على أرنبين برّيّين في هولندا». الطفلان الفلسطينيان المقتولان، أعمارهما بين السنتين والثلاث سنوات. شارون أطلق عليهما النار من مسدسه من مسافة تعادل العشرة أمتار تقريباً.
المتّهم: أرييل شارون وزير الحرب الاسرائيلي أثناء غزو اسرائيل للبنان عام ١٩٨٢، رئيس وزراء اسرائيل لاحقاً. سوّقته الماكينة الإعلامية في الغرب الاستعماري، ومعها دوائر القرار السياسي بكلّ «سينيكية»، على أنّه رجل سلام. وذلك بغضّ النظر عن كرهه العنصري للفلسطينيين ومسؤوليته عن لائحة طويلة من جرائم الحرب المشينة التي قد تكون صبرا وشاتيلا أبشعها لكنّها ليست آخرها. يعتقد في بعض أوساط المتابعين الجديين أنّه أعطى الأمر بقتل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وأنّ دوافع عملية القتل (التي بدت موتاً طبيعياً ناتجاً من انتكاسة صحية) ليست مرتبطة بأجندة سياسية محددة، بل ترتبط بنوازع سيكولوجية ثأرية تنبع من كره شارون الشخصي لعرفات ومن تجربته الشخصية معه أثناء حصار بيروت عام ١٩٨٢. يرقد الآن في حالة مستمرة من الغيبوبة في مزرعته في إسرائيل.
لم يعد مهماً إن كان هؤلاء فلسطينيين من صبرا وشاتيلا أو يهوداً من وارسو
جاء الردّ الإسرائيلي على سلويزر عنيفاً وقاسياً، صراخاً وهمساً. انبرت الطبقة السياسية الإسرائيلية للدفاع عن شارون والتشكيك في صدقية الرواية. قارن يوسف ليفي، الناطق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، بين رواية المخرج اليهودي الهولندي والشائعات التي تتهم اليهود باستخدام دماء الأطفال في قرابينهم وفطير أعيادهم. في فيلم سلويزر (الرجل الذي أراد أن يعرف) يفتتن المجرم بإصرار خطيب ضحيته على كشف مصيرها بعد ثلاث سنوات من اختفائها. ويقدم المجرم على خطوة غير اعتيادية فيواجه العاشق بالحقيقة ويعترف له بأنّه اختطف حبيبته وأنّه فعل ذلك ليسبر أغوار الشر الكامن في نفسه وليتأكد من قدرته على اقتراف أرقى أعمال الشر. وحدها الحاجة الى الحقيقة تمنع الخطيب العاشق من الانتقام من المجرم ثأراً لحبيبته. إنّه يريد أن يعرف لا أن يثأر. ويقدم المجرم عرضه: ستعرف ما جرى لحبيبتك إن وافقت على أن تمر بكلّ المراحل التي اجتازتها في طريقها الى حتفها. يوافق العاشق ويجتاز المرحلة الأولى. ويقدم العاشق للمجرم فنجاناً من القهوة الممزوجة بمخدر قوي ويشربه العاشق التواق للحقيقة وهو على علم بما فيه، مجتازاً المرحلة الثانية ومحققاً شرط التعاقد القائم بين الرجلين على كشف مصير المرأة المخطوفة. وفي المرحلة الثالثة يستيقظ العاشق من تأثير المخدر ليجد نفسه وقد دفن حياً.
هل يكون انعدام الحقيقة وغياب اليقين جحيماً أشد عذاباً من عذاب الموت اختناقاً؟ هل نعرف يوماً الدور الذي اضطلع به قادة إسرائيل السياسيون والأمنيون والعسكريون في مجازر صبرا وشاتيلا أم أنّ الحقيقة دفنت حية مع الضحايا؟ لقد ارتبطت أفلام سلويزر بالبحث الحثيث والحميم عن الحقيقة وصل به إلى حد التماهي مع الفلسطينيين. وهو عندما يحل بينهم ليصور أفلامه الوثائقية لا يحل ضيفاً جديداً، بل يعود الى العائلات الفلسطينية التي بدأ بتصويرها منذ عام ١٩٧٤ ولا يزال. وهو لا يذهب الى فلسطين بسذاجة السائح المتعاطف بل بعين الفنان المدربة والواعية أنّ الطريق الى صياغة الرواية الفلسطينية وكتابة التاريخ الوطني الفلسطيني مسدودة بجدران المستوطنات ومتاهات الخطاب الاستعماري. كما لا يتورع عن كسر المحرمات عندما ينظر الى صورة شارون ويتمنى لو أنّ الجنرال الاسرائيلي قضى في معتقل «أوشفيتز» النازي.
بدأت الحرب على سلويزر وما يهمس به أشد بشاعة مما يصرح به. هل يتراجع؟ هل يعتذر؟ أم يتمسك بروايته وبموقفه؟ هل يستحق شارون فعلاً كلّ هذا التقدير والتنزيه؟ لم لا؟ في النهاية، فإنّ مَن يتّهمه صانع أفلام، ونحن لا نأخذ الأفلام على محمل الجد. لا نريد أن نصدق أعيننا ولا أنّ الأفلام قد تكون حقيقية أكثر من الحقيقة نفسها وأكثر واقعية من الواقع المبرمج.
هل يصنع سلويزر فيلماً عن شارون؟ شارون ببذلة ضابط نازي يطلق النار على الأطفال. الأطفال فقط. لم يعد مهماً إن كان هؤلاء فلسطينيين من صبرا وشاتيلا أو يهوداً من وارسو. سينما سلويزر مفتونة بالشر. بسحر تفاهة الشر. وهو يعرف بلا شك من تجربته مع النسخة الأميركــية لـ«الرجــــل الذي أراد أن يعرف» أنّ العين/ الكاميرا التي تترصد تفاهة الشر قد تنقلب لتصبح راصداً لشرور التفاهة. قد لا يكون اختزال النقاش الى السؤال التبسيطي «هل سلويزر صادق أم كاذب؟» بالضرورة بريئاً، بل إنّ تحوّل شخص مثل شارون إلى خط أحمر ومدعاة للتعبئة والحشد في وجه خطر الأسلمة ودفاعاً عن القيم الغربية والأوروبية، هو الخطر الذي يتهدد كلّ ميل إلى الإنصاف والموضوعية.
* كاتب لبناني