تشهد الرأسمالية في الآونة الأخيرة تناقضاً داخلياً مفاده التعارض بين البعد الاقتصادي للعولمة، والمشاريع السياسية المستقلة. ويتزامن ذلك التناقض مع انتشار أحزاب عمّالية تعمل في سياق تغييب المنهج المادي للتحليل على توسيع الديمقراطية البرجوازية. من جانب آخر فإن بحث واقع الطبقة العاملة، وما حصل فيها من تغيرات يستدعي استعراض بعض التحولات البنيوية والعضوية للرأسمالية، وطبيعة العلاقات التي يتحدد انطلاقاً منها الاقتصاد العالمي.
ويأتي في مقدمة ذلك: تحوّل الرأسمالية في سياق الثورة الرقمية إلى أشكال مالية، وقد ترك ذلك آثاره الواضحة على تراجع فاعلية قانون القيمة ـ عولمة علاقات الإنتاج الرأسمالي على قاعدة التبعية والتبادل اللا متكافئ والنمو المتفاوت، وعزز ذلك من مركزية الاستلاب الاقتصادي، وأدى إلى تعميق التناقض بين مركز النظام الرأسمالي والأطراف، وإلى ارتفاع معدلات الاستقطاب الاجتماعي وتبعية الدول الطرفية الرأسمالية وتعميق أزمتها. وتشير التقديرات إلى أن أقل من 20% من البشر يستحوذون على أكثر من 80% من الناتج العالمي، بينما أكثر من 80% يمتلكون أقل من 20% من الناتج العالمي. هذا في وقت تجاوز حجم الرساميل العائمة الباحثة عن التوظيف عتبة الـ 100 مليار دولار. بينما حجم التجارة العالمية فإنه يُقدر تقريبياً بثلاثة آلاف مليار دولار مع هيمنة الشركات متعددة القوميات على آليات الاقتصاد العالمي وأشكال تطوره. وتحتكر تلك الشركات مع الدول الصناعية الكبرى ما بات يُعرف بالاحتكارات الخمسة «الاحتكارات العاملة في قطاع التكنولوجيا، التدفقات المالية، الموارد الطبيعية للأرض، الاتصالات والإعلام، أخيراً أسلحة الدمار الشامل». وتحدد تلك الاحتكارات الإطار الذي يُعبّر من خلاله قانون القيمية المعولمة عن نفسه، مع ميل معدل الربح الكلي في البلدان الصناعية نحو الانخفاض. وكان لذلك دور كبير في هجرة الرساميل إلى الأطراف المندمجة، وتحديداً التي تتمتع منها بمناخات استثمارية مناسبة. واشتغلت الرساميل المهاجرة على توظيف أجهزة الدولة المضيفة وبناها التحتية لتحقيق أعلى الأرباح. وكان ذلك يتم في سياق تهديم البنى الاجتماعية وزيادة حدة التناقض الطبقي والاستقطاب الاجتماعي ـ ميل الرساميل في سياقها الاحتكاري إلى الاندماج والتكتل. وساهم ذلك في سياق تداخل وترابط القطاعات الصناعية في زيادة تكثيف وتعقيد تركيبها، ووصول كثير من القطاعات الصناعية في الدول الكبرى إلى درجة الإشباع، ما دفعها للانتقال إلى قطاعات أقل إشباعاً، أو الانتقال إلى بلدان تتوفر فيها بنى تحتية متطورة، ومستقطبة للرساميل. وتجلى ذلك في زيادة مستوى تطور وسائل الإنتاج، وتضخّم الإنتاج العالمي، وتغيّر التركيب العضوي لرأس المال الصناعي لجهة تزايد نسبة رأس المال الثابت/ الأساسي مقابل انخفاض رأس المال المتغير. وكان من آثار ذلك انخفاض معدل الأجور نتيجة تخفيض قسري لعدد ساعات العمل، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة الاستقطاب الاجتماعي. في السياق ذاته كان لافتاً أنه كلما تطورت القوى المنتجة كلما احتاج التحديث إلى كتلة نقدية أكبر، وكان ذلك إضافة إلى التطور التكنولوجي يفرض على الدوام انخفاضاً في أعداد العمال.
إن مجمل العوامل السابقة انعكست على أوضاع الطبقة العاملة، وعلى بنيتها العضوية وتركيبتها الداخلية، وأشكال علاقتها مع الأحزاب السياسية التي تحولت في معظمها إلى الليبرالية. ولم تنحصر تلك التحولات في البلدان الصناعية، بل امتدت تداعياتها، بأشكال ومستويات أكثر تراكباً وتعقيداً واضطهاداً إلى البلدان الطرفية. فكانت أوضاع العمال وبنية الدولة في البلدان الطرفية تشهد تحولات عميقة عنوانها الأساس هيمنة رأس المال، وأشكال سياسية أحادية تضيف إلى التفاوت والاستقطاب الاجتماعي والاستلاب، قمعاً سياسياً. وكان المدخل إلى ذلك تراجع دور الدولة الاجتماعي والتنموي، وتحولها إلى أشكال نيو ليبرالية تقع على درجة كبيرة من التخلف والتبعية الارتهان. هذا إضافة إلى تخلع القطاعات الإنتاجية، وانخفاض معدلات الإنتاج، وارتفاع معدلات الكلفة الإنتاجية، وتخلف البنى التحتية، وتراجع دور القوانين والأنظمة أمام انتشار ظواهر الفساد والنهب وتهريب الأموال والمحاصصة وتوظيف المال السياسي خدمة للمصالح الشخصية. وكان ذلك يتم في سياق تغوّل السلطة، وابتلاعها لمؤسسات الدولة والمجتمع، وانخفاض معدل توظيف الرأسمال الصناعي أمام ارتفاع معدل التجارة الحرة وتسارع انتشار ظاهرة التمييل وتضخم التوظيف العقاري وهروب الرساميل للخارج.
إضافة إلى ما سبق، فإن الشرائح العمالية في بلداننا عموماً تعاني من أمراض الاستبداد والشمولية والقمع وتغييب الحريات السياسية والمدنية. وكان ذلك ينبئ على الدوام بتزايد القمع السياسي والطبقي بشكل طردي مع تعمق الأزمة الاقتصادية والسياسية رأسياً وأفقياً، وساهم ذلك في زيادة معدلات البطالة وارتفاع معدلات الفقر وانخفاض مستوى الأجور إلى درجة لم تعد قيمتها الحقيقية تغطِّي الحد الأدنى للنفقات الأساسية. في السياق، كانت السلطات السائدة تشتغل على احتواء النقابات وإقصائها عن مهماتها الأساسية السياسية والاقتصادية، وتهميش وتقييد الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني كافة. وتتضح تلك الميول في معظم البلدان الطرفية التي تتفاقم فيها أزمات اقتصادية بنيوية، نتيجة ارتباطها بحركة الاقتصاد الرأسمالي المركزي الذي يعاني بدوره من أزمة بنيوية. ومع ذلك لم تنجح الأحزاب السياسية اليسارية في قيادة المتضررين من تناقضات النظام الرأسمالي المعولم، والتأسيس إلى تحالفات عمَّالية تناهض الرأسمالية المعولمة. في مقابل ذلك، فإن الفئات العمالية كانت نتيجة تداخل وتشابك عوامل أزمة الدول الطرفية مع أزمة بلدان المركز، تزداد تفتتاً وانقساماً أفقياً يعيدها إلى انتماءاتها قبل الوطنية. وازدادت تلك التحولات تفاقماً وابتعاداً عن جذرها السياسي والاقتصادي، في ظل صراعات تجتاح دولاً عربية. وكان لارتفاع وتيرة العنف والقمع والتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية المباشرة وغير المباشرة، دور كبير في اتساع تلك التحولات.
ويفاقم من حدة الاستغلال الاجتماعي ومن شدة تعقيد لوحة الصراعات على المستوى العالمي، التناقض والترابط والتشابك التي يتسم بها المشهد العالمي. وفي سياق ذلك يركِّز صنّاع القرار في إبعاد التناقض الاجتماعي عن جوهره الطبقي، ودخول البدائل السياسية الطبقية في طور العطالة المنهجية والسياسية. ويعود ذلك إلى إفلاسها وعجزها أمام واقع متغيّر ومتجدد، وتشكّل الأحزاب الشيوعية من فئات برجوازية صغيرة تميل إلى تبنّي ديمقراطية ليبرالية، ونخبوية القوى الشيوعية وافتقادها إلى الحاضنة الاجتماعية. وكان ذلك من أسباب عجزها عن تحويل الفكر إلى قوة مادية. وهذا يدل على أن الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي لم تتحول إلى أزمة عامة، لهذا فإنه من المستبعد انهيار الرأسمالية بسبب مفاعيل أزمتها البنيوية. فهي تعيد إنتاج ذاتها المأزومة في ظل تراجع تأثير الأحزاب العمالية الراديكالية، وتشتت الشرائح العمالية، وابتعادهما عن الجذر السياسي الطبقي للتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. وفي سياق ذلك يستمر رأس المال في عسكرة الاقتصاد وشفط فضل القيمة وثروات البلدان الطرفية موظفاً لتحقيق ذلك الثورة الرقمية وثورة الاتصالات والتكنولوجيا والقوة العسكرية. ولا تقف الأمور عند تلك الحدود، لكن تتجاوزها إلى تسليع وتغريب الإنسان وتشييئه. ويتجلى ذلك بشكل خاص في البلدان الطرفية، وتتقاطع في تلك الدول أزمة رأس المال مع سيطرة نظم سياسية اعتمدت القوة والقمع المنظّم والمقونن لفرض أحادية سياسية قهرية. وفي سياق تجفيف منابع العمل السياسي وهدر الإنسان، اشتغلت السلطة على ابتلاع مؤسسات الدولة والمجتمع.
* كاتب وباحث سوري