محمد بنعزيز *«إنّك تنسى يا سيد ديدرو، وفي كلّ مخططاتك الإصلاحية، الفرق بين وضعية كلّ منا. فأنت لا تعمل إلا على الورق الذي يقبل بكلّ شيء، أما أنا، الإمبراطورة المسكينة، فأعمل على الجلد البشري السريع الانفعال والحساس جداً، خلافاً للورق» (1). كان هذا ردّ إمبراطورة روسيا كاترين الكبرى (1729 ـــــ 1796) المتأثرة بعصر الأنوار على المنظّر دنيس ديدرو الذي وصفها بالطاغية. آمن ديدرو بأنّ الصولجان للأمة، وأنّ الإمبراطورة لا تستمد سلطتها إلا من رضى رعاياها، لكن هذا خلاف الواقع حيث يسود الحكم المطلق والاستبداد. إنّ الفيلسوف على حق، لكنّه لم يلاحظ الفرق على مادة الاشتغال. إنّه يتسلم الورق أبيض أملس ويجلس إلى مكتبه ليكتب متى وما شاء. أما الإمبراطورة فقد تسلمت روسيا التي تحيط بها المخاطر من كلّ جانب وتنبعث منها حركات التمرد باستمرار، وقضت 35 عاماً تحكم وتعمل على جلد البشر الحساس وحتى على أعناقهم التي أينعت.
لا يقتصر الفارق على مادة الاشتغال، بل يمتد إلى الموقع أيضاً. فالفيلسوف ينظّر. يقف على الشاطئ وينصح السابحين. أما السياسي فهو في معمعة الصراع، ويترتب على الاختلاف في المواقع اختلاف في المهمات، وهذا ما فصّله هنري كيسنجر. يقول إنّ الفيلسوف يحلل، بينما السياسي يبني. الأول ينتقي المشكلة التي سيحللها ويقرر متى سينهض لدراستها، أما الثاني فتفرض عليه المشاكل نفسها ويضغط عليه الزمن في بحثه عن الحل. الفيلسوف، أو المحلل، يعمل بأمان في مكتبه ويمكن أن يصحح أخطاءه على الورق أو يعيد الصياغة. أما السياسي فإنّه يخاطر، وأخطاؤه لا رجعة فيها، والاستهتار مكلف للسياسي، و«تنطوي مسؤولية رجل الدولة على حلّ المعضلة لا تأملها» (2). إنّ المشكلة يمكنها أن تجرف الدولة بكاملها، لذا يستشهد كيسنجر بريشوليو «الإنسان خالد وخلاصه في الآخرة. والدولة ليست بآبدة، وخلاصها إما الآن أو لا خلاص لها» (3).
هذا هو الفارق الذي غاب عن ديدرو، وهو فارق خطير. فحكّ الورق أسهل من حكّ جلد البشر أو حتى دلكه. ومع ذلك، فالفيلسوف، أو المثقف، يعدّ نفسه، من مكتبه، أهم من السياسي، لذا ينتقد أسبقية السياسة على الثقافة. وهو يتأمل ويحلل وينتقد ويملي على السياسي ما سيفعله، بينما السياسي مشغول بتدبير ضرورات اللحظة. ولهذا التدبير إكراهات مروعة، فالسياسي يخطط ويستعد ويناور ويقاتل. لذا لم تكتف كاترين الكبرى بالاشتغال على جلد رعاياها، بل اشتغلت على أعناقهم أيضاً، فشنقتهم في ساحات موسكو ليكونوا عبرة للأعناق السليمة.

في بداية القرن الواحد والعشرين، انقرض المثقف العضوي، وظهر الفاعل الجمعوي والإعلامي
لقد كان السياسيون يعتمدون الإكراه لحلّ المشاكل، وكان الكثير منهم دمويين، جلادين، وماكرين. المهم أن يقودوا البشر، وهذه مهمة صعبة جداً تجعل القوة ضرورية، لذا قال ابن خلدون «كلّ أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية». ولكن هذا الاستخدام للعصبية أمر مكلف، وهو تشويه صورة صاحبها، وخاصة إن فشل في إنقاذ الدولة، وهو الهدف السامي للسياسي، بغض النظر عن الوسائل. وهنا نصل إلى ميكيافيلّي الذي نصح الأمير بالتركيز على العامة وإهمال المثقفين، لأنّ عددهم قليل وهم معزولون وتأثيرهم محدود. كانت هذه النصائح ناجعة، مكّنت الأمير من حيازة السلطة والحفاظ عليها. لكنّ لفظ الميكيافيلية صار شتيمة تجمّعت فيها كلّ النعوت القبيحة. ولم يكن بإمكان المثقفين الحالمين أن يعترفوا بأنّ نيقولا ميكيافيلي قد وصف بمهارة عمل السياسيين على جلد البشر. لكن بعض أولئك المثقفين مثل توماس هوبس كان شجاعاً ليدعم ميكيافيلي، ويضيف أنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأنّ المجتمع يعيش حرب الكلّ ضد الكلّ.
كيف يمكن المثقف المنسجم مع ذاته أن يقبل أن يكون الإنسان ذئباً ومحارباً أبدياً؟ هذا جنون. الإنسان كائن شاعري حساس ورائع وخيّر يحلم بالعدالة. هكذا صوّرته الرومانسية في نهاية القرن الثامن عشر. سحرت هذه الصورة المثقف، لذا ترك الميكيافيلية للسياسي واشتغل باكتشاف الطبيعة البكر، وصار يهدد بهجر المجتمع من أجلها. هذا الفصل بين المهمات مريح جداً. أراح السياسيين من المثقفين الذين يريدون من يكيل لهم المدائح كالفتيات، كما يقول إسماعيل كاداريه (4)، وأراح المثقفين في أبراجهم العاجية من تحمّل إكراهات التدبير الميداني والتعامل مع العامة، كما كتب فولتير دون مجاملة.
لكنّ منتصف القرن التاسع عشر سيشهد تفجّر البؤس الاجتماعي المتولّد عن الثورة الصناعية، لذا سيقرر المثقف كارل ماركس حينها أن يغيّر مهمته ومادة اشتغاله، وقد كتب «لقد اقتصر الفلاسفة على تفسير العالم على أنحاء شتى، ولكن المهمة الحقيقية هي تغييره» (5). وقد رأى ماركس أنّ الحقيقة تثبت بالممارسة لا بالتأمل، ومن هنا ضرورة الفاعلية على الأرض. هكذا مهّد ماركس الطريق الطويل أمام المثقف ليشتغل على الورق، وجلد البشر وأدمغتهم طيلة القرن العشرين، مع توجيه نقد شديد إلى كلّ مثقف ذاتي منقطع عن الجماهير، نخبوي حالم ومتبرجز. وقد مثّل المثقف العضوي لدى أنطونيو غرامشي النموذج الأوضح للمثقف الذي يرفض أن يقتصر عمله على تأمل المشاكل وانتقائها وتحليلها على الورق، بل يريد أن يهدم القديم ليبني الجديد. يبني الأحزاب والنقابات والألوية والدول. وقد كان لهذا التحوّل تاريخ مجيد، شرح في مجلة أبحاث: «بلغت صورة المثقف الملتزم والمناضل، الفاعل في التاريخ، أوجها في القرن العشرين: روزا لوكسمبورغ تدفع حياتها ثمناً لمناهضة الحرب، أنطونيو غرامشي يموت في سجون موسوليني، إرنست همنغواي يقف ضد فرانكو، عبد اللطيف اللعبي في المعتقل يقلب العالم على رأس النظام المغربي، عمر بنجلون يدفع حياته ثمناً لفكرة، أحمد فؤاد نجم يترهل في سجون مصر، عبد الرحمن منيف يتشرد في العالم بسبب فضحه لمجتمع النفط...» (6). هكذا أصبح المثقف يزاحم السياسي في الاشتغال على جلد البشر، وعلى أدمغتهم أيضاً، لأنّ العصر الحديث عرف تزايد التعليم وقوة وسائل الاتصال التي حوّلت أصحاب الجلد إلى جماهير تستهلك المعلومات والآراء. وهذا ما جعل مثقفاً ينشر قصيدة أو قصة أو تعليقاً يهدّد نظاماً بكامله. لم تعد المعركة تتطلب جنوداً ورجال شرطة فقط، أصبحت معركة رأي عام، تتطلب ناطقين باسم الشعوب. هنا أصبح شاعر مثل بابلو نيرودا أخطر من جنرال في دبابة.
وهكذا تحقق حلم ماركس. لقد غيّر المثقفون العالم، فرضوا على الأباطرة أن يصبحوا مؤقتين وخاضعين لرضى الأمة، صاحبة الصولجان والسيادة. وقد جدد هذا الإنجاز ثقة المثقفين بأنفسهم. لكنّ العولمة الحالية تعيد ترتيب الأوراق، ويبدو أنّ الأسواق حلّت محل السياسيين في الاشتغال على جلد البشر وبطونهم.
هذا توصيف لمسار كوني، لكن ما الذي يجري في مغرب اليوم؟
اكتشف العروي في الإيديولوجية العربية المعاصرة أنّ الشيخ (الفقيه) والمحامي (رجل السياسة) والمهندس (التقني) هم دعاة الإصلاح بداية القرن العشرين. في منتصف الثمانينيات، عثر عبد الصمد بلكبير على ثلاثة فصائل بين المثقفين المغاربة: فصيل من اختاروا العمل من داخل أجهزة الدولة، وهم غالباً ما تحوّلوا إلى بيروقراطيين رجعيين. فصيل من اختاروا المعارضة وهم مشتّتون، حلقيون، متقاعسون. وأخيراً فريق المتصوّفة المنعزلين عن العمل العام قصد التفرغ للمخدرات أو الأسرة أو الثقافة كخيار وحيد (7). وفي تصنيف ذي صلة، جرّد العروي سمات المثقف العربي، وهي: أولاً البؤس واليأس بسبب عدم الرضى عن الوضع، وثانياً الجهل بالمحيط الطبيعي والتاريخي لأنّ المثقف يعيش في ثقافته لا في محيطه المادي، ولأنّه يتناسى فترات من التاريخ قد تضر بالمجتمع (8). وقد حاول الكثير من المثقفين من هذه الطينة أن يصبحوا سياسيين في سن متأخرة، وترشّح بعضهم للانتخابات وقاد حملته على الورق لا على جلد الناخبين وبطونهم وجيوبهم، وكانت النتائج التي خرجت من صناديق الاقتراع مهزلة.
في بداية القرن الواحد والعشرين، لم تعد الصورة بهذا الوضوح. انقرض المثقف العضوي، وظهر الفاعل الجمعوي والإعلامي. التحق الفصيل الثالث من المثقفين بالفصيل الأول، وأصبح المتصوّفة خداماً للدولة ضد الفقهاء المسيّسين. إضافة إلى هذه الفوضى، أصبح المهندس يقوم بوظيفة الشيخ كما هي حال المهندسين ابن لادن وشيخ حركة التوحيد والإصلاح محمد الحمداوي. ثم إنّ تصنيف مثقّفي اليوم بناءً على المواقع، ضبابي، لأنّ التناوب قد مثّل فرصة للمصالحة بين الدولة والمثقفين. وقد فتح ذلك الباب أمام الكثيرين لتولّي مواقع في الإدارة، لكنّ تأبيد عمر الانتقال الديموقراطي دفع قلّة منهم إلى إعادة حفر مسافة بينهم وبين مؤسسات الدولة، وبالتالي التعبير عن موقف نقدي تجاه الوضع القائم. أما أغلبية المثقفين الذين مثّل لهم التناوب فرصة ذهبية للعمل في أجهزة الدولة، فقد استطابوا الإقامة في ظلال السلطة حيث السكن والسيارات والتعويضات. وعندما تبدد التناوب كانوا قد بلغوا مواقع أسرتهم، فصاروا من عبدة الكراسي. وطبعاً لا يعقل أن يتركوا الجمل بما حمل، وهم واعون أنّه لم يعد لهم أي دور ذي دلالة سياسية، وبالتالي فإنّ نقطة انطلاقهم، أي تغيير العالم بدل تأمله وتفسيره، لم يعد لها معنى. توقف جلّهم عن الكتابة، وصار مشغولاً ببناء ثروة، بتوفير فيلا رئيسية وأخرى ثانوية للاصطياف. لذا لم يعودوا مشغولين بالاشتغال، لا على الورق ولا على جلد البشر، وأقصى ما يشتغلون عليه هو جلدهم، يغيّرونه في الشتاء والصيف ليلائم سيّد المرحلة.
ما هو الثمن؟ الجواب لدى الشاعر محمود درويش في قصيدة مزامير: «يوم كانت كلماتي تربة، كنت صديقاً للسنابل، يوم كانت كلماتي حجراً كنت صديقاً للجداول... حين صارت كلماتي عسلاً غطّى الذباب شفتي».
هل هذه هي مشكلة المثقفين اليوم؟
* صحافي مغربي

هوامش
(1) «تاريخ الفكر السياسي» جان جاك شوفالييه
(2) و(3) «تاريخ الدبلوماسية» هنري كيسنجر
(4) «الوحش»، إسماعيل كاداريه
(5) «حكمة الغرب»، برتراند راسل، عالم المعرفة عدد 72
(6) «إشكالات تجدّد النخبة الثقافية بالمغرب»، محمد بنعزيز، مجلة أبحاث العدد 55 عام 2004
(7) ندوة أنوال الثقافي، العدد 149 في 03/11/1984
(8) «ثقافتنا في ضوء التاريخ»، عبد الله العروي