strong>كمال خلف الطويل*غدت حكاية مقال سليم نصار في مجلة الحوادث عام 1976، المستوحى، حسب وصفه، من محضر لقاء وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر مع الرئيس اللبناني الأسبق سليمان فرنجية في قاعدة رياق في البقاع في كانون الأول 1973، كالذي اخترع أحبولة، ثم استخدمها مراراً وفق ما اقتضت حاجاته، حتى بلغت عنده، فضلاً عن مستمعيها، مبلغ الصدقية والتصديق، دونما تبصّر بالمنشأ والموطئ والمهاد.
بداية، ليس ثمّة رسالة طيّرها هنري كيسنجر إلى ريمون إده في صيف 1976، جواباً على رسالته إليه، شاكياً من دور أميركي وسمه بالتواطؤ لتقسيم لبنان على غرار قبرص قبلها بعامين.
هذا أولاً. أما ثانياً، فإنّ استيحاء الكاتب سليم نصار مقاله المتخيَّل ـــــ الافتراضي من محضر جلسة رياق قبله بعامين ونصف عام يستحضر نصاً كلّ ما فيه قدحٌ من خيال في الأصل والأساس. فلمّا أضيف الخيال على المخيال انتهينا بتلفيقة من العيار الثقيل.
البداية هنا هي مقولة حبكها ورددها الرئيس سليمان فرنجية أواخر أيام رئاسته، وفي السنين اللاحقة لها، بل حتى موته، تتألف من ثلاث نقاط. أولاً قال فرنجية إنّ كيسنجر فرد أمامه خريطة لبنان وعليها بقع ألوان متباينة هي لكانتونات تَصوّرها مصيراً للبنان تعددي، أحد حجارته فلسطيني. ثانياً حضّ كيسنجر فرنجية على ضرب المقاومة الفلسطينية، ولا سيّما أنّ جيشه، في تقديره، قادر على المهمة. فردّ فرنجية بالاعتذار مبرراً للمقاومة وجودها وحملها السلاح. أيّ أنّ فرنجية، بعد سبعة أشهر فقط من محاولته المسلحة الجادة لاستئصال المقاومة الفلسطينية واستخدام سلاح الطيران اللبناني، الذي كان تحت إمرته، لقصف المخيمات للمرة الأولى، يقول الآن إنّ من حق الفلسطينيين المقاومة، و«لن أفعلها يا هنري مهما ضغطت». ثم اكتمل النقل في الزعرور بإضافة رواية مكملة لأختها السالفة الذكر، عندما أفصح الرئيس فرنجية عن فحوى ما قاله المبعوث الرئاسي الأميركي، السفير دين براون، عندما أتاه في نيسان 1976 ليتلو المزمار الآتي: «لقد قضي الأمر يا مسيحيّي لبنان... مآلكم كندا، وها هي البواخر قبالة شواطئكم بانتظاركم في عرض البحر. فلستم هنا إلا فائضاً بشرياً لا مستقبل له». أيّ أنّ العزيز هنري كان مع حلول ربيع 1976 قد نفض يده من لبنان، ناوياً الاستسلام فيه وتسليمه لمنظمة التحرير الفلسطينية وحليفها اليسار اللبناني!
كانت هاتان المقولتان من سيناريو وحوار وإخراج الرئيس فرنجية إثر خروجه على المسيحية السياسية مع مطلع عام 1978 وحسم أمره في الانتظام في حلف مع سوريا. حلف عمّده بالدم، اغتيال ابنه وخليفته المطوّب طوني على أيدي سمير جعجع والكتائب.
احتاجت هذه النقلة المحمودة، التي ثابر عليها سميّه الحفيد، إلى تكييف نظريّ يبرر ويفسر ما سبقها من نهج، ويضعه في خانة الضرورة والاضطرار.
ليس في محضر كانون الأول 1973 في رياق، الذي حضر اجتماعه تقي الدين الصلح وفؤاد نفاع من الجانب اللبناني وجوزف سيسكو وهارولد ساندرز وألفريد أثرتون من الجانب الأميركي، شيء مما روته الحكاية الفرنجاوية. فوثائق الخارجية الأميركية عن تلك الفترة ولواحقها لم تحوِ جملةً من الأحبولة أو سطراً. ثم أتى الكاتب سليم نصار، وأعلن أنّ «المحضر» بحوزته، ليستنبط منه، بعد عامين ونيف «تصوره» لحديث كيسنجر عن لبنان، وفيه ما فيه من العجب العجاب عن «قراره» تقسيم لبنان وإحراقه لأجل إسرائيل.
من البديهي أنّ على أُولي العزم تبيان مقاصد السياسة الأميركية في المنطقة وكشف سيئاتها وتعرية مخبئاتها. ذلك واجب الأمس واليوم والغد. لكن هذا أمر، وتوهّم مقاصد وسياسات متخيَّلة نتكئ عليها إما لتبرير خطايانا أو لتفسير عجزنا أو لخلط الأوراق أمر آخر، فهو مما يدخل في باب التهاويم والإسفاف والضرر.
لنراجع معاً ما الذي ابتغته واشنطن من لبنان في النصف الثاني من العشرية السابعة للقرن العشرين. أولاً كان هناك إيكال مهمة تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان للجيش اللبناني،

كلّفت واشنطن آل سعود بالتمويل، وآل هاشم بالتدريب، وإسرائيل بتسليح الميليشيات المسيحيّة

وهو ما فشل فيه في أيار (مايو) 1973. ولعل ضعف القدرة من جهة، ووقوف حافظ الأسد في وجه المحاولة من جهة أخرى، وهو المتأهب حينها لخوض حرب قريبة، هما ما أفشل المحاولة بامتياز. ثانياً، كانت هزيمة المقاومة في لبنان غير واردة، وبالتالي فإنّ إخراجها عبر إحراجها وتوريطها في حرب أهلية دموية يفتح الطريق أمام غزو استئصالي إسرائيلي، هما السبيلان المتاحان والمتوجبان. ثالثاً، كانت «المسيحية السياسية» بيدقاً ذا شأو في إنفاذ السياسة الأميركية هذه. هي وقود محرّكها وواسطة تجسيدها عبر اشتباكها مع المقاومة هذه ومع حلفائها المسلمين اللبنانيين. كلّفت أيامها واشنطن آل سعود بالتمويل، وآل هاشم بالتدريب، وإسرائيل بالتسليح والإشراف حتى يشتد عود ميليشيات «المسيحية السياسية» على خوض المعارك. رابعاً، أفلهؤلاء، والحال كذلك، تُرسل بواخر الترحيل والتهجير؟ حتى عندما دنت هزيمة «المسيحية السياسية» أيام أتى براون مبعوثاً، ألم تكن واشنطن هي من عقد صفقة مع دمشق أمّنت الثانية بموجبها حمايتها ودرء الخطر عنها؟ فلمَ البواخر إذاً؟ خامساً، هل يعقل لواشنطن أن تدَعَ لبنان يصبح قاعدة إسناد وانطلاق وعمل للمقاومة الفلسطينية وحليفها اليسار اللبناني؟ أليس ذلك من تاسع المستحيلات؟ وبمن إذاً ستقاتل «التوأم»؟ أليس باحتياطيها المحلي الكبير من اليمين الانعزالي، المسيحي الطابع؟ ويحدثونك عن البواخر.
أن يكون الرئيس فرنجية لم يستلطف، والعكس صحيح، العزيز هنري أمر، وأن يَنقل عنه ما لذّ وطاب لأسماعه أمر آخر.
أن يكتب ريمون إده لكيسنجر ما شاء شيء، وأن يرد العزيز بما يتخيّله سليم نصار (وأين في الحوادث !؟) شيء آخر تماماً. يومها، ولتاريخه، أرادت واشنطن، وتريد في لبنان كياناً واحداً، يحكمه نماذج على مقاس الحلف الثلاثي وحلف الوسط، يأخذونه من «الشام» إلى مكان قريب من برمودا.
تلك هي الحكاية.
* كاتب عربي