strong>ديما شريف*بمحض صدف متكررة ربما، ينشر الكاتب والصحافي بوب وودورد كتبه دائماً بعد فوات الأوان. فقبل أن يصوّت الكونغرس الأميركي في بداية 1991 على قرار شن «عاصفة الصحراء» رداً على الاجتياح العراقي للكويت قبل ستة أشهر، عرف وودورد أنّ رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي الجنرال كولن باول يعارض أي عملية عسكرية. وعوض عرض هذه المعلومة الهامة التي كان ربما بإمكانها تغيير مسار الأحداث، احتفظ وودورد بالسر لنفسه أشهراً عدّة، ونشرها في كتابه الصادر في ذلك العام «القادة» (the commanders). لم تكن تلك المرة الأولى التي يحجب فيها وودورد معلومات هامة. فقبل ذلك، في 1987، انتظر الى ما بعد موت مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) وليم كايسي، ليقول إنّ هذا الأخير اعترف له بأنّه علم بتحويل الأموال إلى ميليشيا الكونترا في نيكاراغوا، في ما عرف بـ«إيران ــ كونترا»، عبر بيع الأسلحة إلى طهران. وظهرت المعلومة في كتابه «حروب سي آي إيه السرية 1986 ــ 1987» الذي صدر لاحقاً في العام نفسه.
في كتابه الجديد «حروب أوباما»، لا يفشي وودورد سراً كبيراً، إذ بات معلوماً أنّ الرئيس باراك أوباما ضعيف، يتلاعب به الجيش كيفما يريد. كيف لا، وقد أقنعه جنرالات البنتاغون بإرسال 17 ألف جندي في بداية 2009 إلى أفغانستان، قبل أن يتخذ القرار الهام بإرسال 40 ألفاً آخرين بعد أشهر. إذاً، ينقل الصحافي في جريدة «واشنطن بوست» معارك أوباما الداخلية وكباشه مع العسكر في موضوع تصعيد الحرب «الصحيحة» في أفغانستان.
وكعادته في كتبه السابقة، يحاول وودورد أن يخبر الجميع (قرّاءه والسياسيين) عدم استطاعة أحد الهرب منه. فالتفاصيل التي ينقلها عن لقاءات ثنائية وحتى أفكار أسرّ بها أيّ كان لنفسه (!) تنبئ بأمر من اثنين: إما أنّ وودورد يتمتع بقدرات خارقة تسمح له بالتنصت على أي لقاء ثنائي أو قراءة أفكار السياسيين والعسكريين، أو أنّ الجميع متهمون بالتسريب، حتى أوباما نفسه. الصحافي الذي كشف مع زميله في «واشنطن بوست» كارل برنستين في 1973 فضيحة «ووترغيت»، أصبح على صلة قوية جداً بكلّ الفاعلين في واشنطن حتى استطاع الحصول على هذا القدر من الوثائق والمحادثات التي اعتمد عليها كتابه، كما كلّ ما نشره من قبل. ملفات سمحت له بأن ينقل نقاشات مجلس الأمن القومي مثلاً بحرفيتها، التي يفترض أن تكون سرية جداً. لكن هذا النقل بقي خالياً من أي نقد. هو ببساطة لا يحلل كثيراً ولا يعطي رأيه في ما ينقله، حفاظاً منه ربما على علاقاته بالمسرّبين، أي السياسيين أنفسهمعرض عضلات وودورد في الحصول على المعلومات يبدأ في الفترة التي سبقت انتخاب أوباما، في تشرين الأول 2008، وينتهي بعد نقل الجنرال ديفيد بترايوس من العراق الى أفغانستان، في حزيران 2010. نتعرف خلال هذه الفترة على سير الحرب في أفغانستان، لكن من واشنطن. لا نتوقف عند الضحايا المدنيين، وسقوط الأبرياء والأطفال في هجمات الطائرات من دون طيار، إلا لماماً. لا يكترث وودورد لذلك، ويركز كلّ اهتمامه على واشنطن، حيث كان جنرالات الجيش يشترون أسلحة جديدة استباقاً لحرب مقبلة قد تقع في 2015 أو 2020. ويتابع الكتاب بدقة تفاصيل الإعداد لزيادة الجنود في أفغانستان منذ أول اجتماع لمجلس الأمن القومي حول الحرب في 23 كانون الثاني، بعد ثلاثة أيام على تنصيب أوباما.
ورغم أنّ محور الكتاب هو الخطوات التي أدت إلى زيادة عدد الجنود في أفغانستان، يكتشف القارئ معلومات أخرى هامة. فأحد الأسباب التي دفعت هيلاري كلينتون إلى الموافقة على أن تكون وزيرة للخارجية في إدارة خصمها اللدود، إقناع مساعدها مارك بيّن لها أنّ ذلك قد يفتح الباب أمامها بعد أربع سنوات كي تكون نائباً للرئيس، حين يتخلى أوباما عن جوزف بايدن. استخبارات الأردن من جهتها، كانت «مملوكة» من قبل الـ«سي آي إيه» كما أخبر مديرها مايكل هايدن أوباما في التاسع من كانون الأول 2008، قبل تنصيبه رئيساً.
لكن ربما أهم ما يمكن استنتاجه من الكتاب أنّ أوباما لم يعيّن أحداً في إدارته سوى نائبه. فكل المساعدين والموظفين والوزراء جاؤوا نتيجة اقتراح من مستشاريه والمقربين منه الذين قرروا عنه. فوجد نفسه بعد فترة يبدأ بالاستغناء عن الأشخاص الذين فوجئ بهم خلال ولايته، وتوصل إلى أنّه لا يستطيع العمل معهم. هذا الأمر يمكن إرجاعه إلى أنّ الرئيس حديث العهد بالسياسة في واشنطن، التي دخلها عام 1997، ولم ينسج علاقات كثيرة مع أشخاص خارج مدينته شيكاغو. فكلّ مستشاريه، هم أصدقاؤه من المدينة، أتوا معه إلى واشنطن ويتوقون إلى الرحيل عنها.
الأساس هنا هو ديفيد إكسلرود. تعرّف مستشار الرئيس الأول إلى أوباما في 1992. صداقتهما تعمقت مع مرور الوقت، فأصبح إكسلرود مستشار الرئيس في كلّ مرة ترشح فيها إلى منصب سياسي. حين وصل أوباما إلى البيت الأبيض، كان طبيعياً أن يحصل إكسلرود على منصب ما فيه. أول نصيحة أعطاها المستشار لرئيسه هي توظيف راحم عمانوئيل، صديقه منذ 25 عاماً، رئيساً لموظفي البيت الأبيض. وربما هنا بدأت المشاكل.
كان لعمانوئيل رأي بطبيعة الحال في اختيار من سيعمل معهم، إلى جانب يده الطولى في اختيار وزراء ومساعدين لأشخاص آخرين. أبرز ضحاياه كان مستشار الأمن القومي الجنرال جيم جونز. حين جرى تعيين جونز، أبلغه أوباما أنّ باستطاعته استخدام من يشاء كمساعدين له. لكن لم يحصل أي من ذلك، إذ حتى نائبه توم دونيلون كان من اختيار عمانوئيل، صديقه منذ عقود، الذي اقترح الاسم بداية، ثم أصرّ عليه على نحو مزعج، وفق الكتاب، للقبول به. وبعد أسابيع على تعيينه، طلب جونز أن يقرأ مسودة خطاب أوباما يوم تنصيبه، وهذا من حقه، لكن عمانوئيل وإكسلرود والمتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبز لم يوافقوا. لم يكن لأوباما قرار في ذلك. اتخذ الآخرون القرار عنه.
حين أتى الوقت لتغيير مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايكل هايدن، قرر عمانوئيل أنّ ليون بانيتا، صديقه منذ الثمانينيات، هو الشخص المناسب للمنصب. هايدن من جهته، عرف في الخامس من كانون الثاني أنّ بانيتا سيخلفه بعد قراءته الخبر في «واشنطن بوست». أما مدير مجلس الاستخبارات القومي، دنيس بلير، فقد اختاره جون بوديستا، المسؤول عن الفترة الانتقالية لأوباما الى البيت الأبيض.
حين اتخذ قرار تغيير المسؤول العسكري في أفعانستان الجنرال ديفيد مكيرنان، اختارت هيلاري كلينتون الجنرال ستانلي مكريستال. أما الجنرال ديفيد بترايوس، رئيس مكريستال، فلم يعرف بأمر التعيين إلا حين كان وزير الدفاع روبرت غيتز يعلن ذلك على شاشات التلفزة. كلينتون مثلاً اختارت أنطوني زيني سفيراً لها في العراق وأبلغته ذلك. لكن بعد أسابيع اتخذ قرار تعيين كريستوفر هيل، ولم يبلغ أحد زيني بذلك.
الأمر الثاني الذي يظهره الكتاب هو كمية الخلافات والحقد المتبادل بين أعضاء الإدارة الفتية. نائب الرئيس جوزف بايدن مثلاً قال عن ريتشارد هولبروك، مبعوث وزارة الخارجية الى أفغانستان وباكستان، إنّه «أكثر السافلين أنانية التقيته في حياتي». جيم جونز كان يطلق على مستشاري الرئيس

يركّز وودورد في كتابه على صناعة قرار الحرب في واشنطن دون الاهتمام بضحاياها في أفغانستان

صفة «المافيا» ويعتبرهم عائقاً أمام رسم سياسة متناسقة. هؤلاء منعوه من التحدث مع الرئيس خلال زيارة أوروبا الأولى في آذار 2009. من جهتهم، قال عدد من أعضاء المجموعة التي كانت تعمل مع نائب رئيس مجلس الأمن القومي لشؤون العراق وأفغانستان الجنرال دوغلاس لوت إنّ الإدارة مليئة بالقبائل المتناحرة. علاقة بترايوس بأوباما سيئة، وخصوصاً أنّ الإدارة تعتبره «جنرال بوش»، وهو لم يُدعَ إلى اجتماعات هامة، منها اجتماع في 13 أيلول 2009 قدم فيه مكريستال ورقة حول تقويمه الحرب في أفغانستان. في هذا الاجتماع قرر مدير مجلس الاستخبارات القومي دنيس بلير عدم دعوة رئيس الـ«سي آي إيه» ليون بانيتا، ما يعكس الخلافات الكبيرة بين المدير والوكالات. وكان بلير يقول عن الوكالة إنّها حيوان خطير يجب أن يراقبه شخص بالغ طيلة الوقت. هولبروك كان يعدّ جونز ضعيفاً، وهذا الأخير كان يعتبر مكريستال ساذجاً. وحين قدم رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأدميرال مايكل مولن شهادة أمام الكونغرس، غضب منه أوباما كثيراً لأنّه تحدث عن زيادة في عدد الجنود قبل اتخاذ القرار، ليتضح لاحقاً أنّ توم دونيلون قرأ الخطاب ووافق عليه.
هذه عيّنة من التخبط والفوضى المتفشية في إدارة أوباما. لا وجود لتواصل جدّي وقائم بين الفاعلين، والثغر تجتاح البرامج والخطط. كان الرئيس الشاب يريد أن يطبق على الأرض التغيير الذي وعد به، فأتى بوجوه واشنطن القديمة نفسها.
لكن وودورد لا يريد أن يدخل في متاهة انتقاد الرئيس الذي أعطاه مقابلة حصرية للكتاب في تموز الماضي، وانشغل عوض ذلك بانتقاد صحيفة «نيويورك تايمز». فقد نشرت الصحيفة العريقة «حرفاً بحرف» مقالة سبق أن نشرها صاحب «كلّ رجال الرئيس» (1974) في 21 أيلول على موقع «واشنطن بوست» الإلكتروني عن تقويم مكريستال عن الحرب. لكن اطمئنوا، فإنّ الكاتب لم يكن يكسر تقليده بنشر المعلومات بعد فوات أوانها، فقد استشار البنتاغون مسبقاً، الذي لم يمانع نشر ما «يعرفه أصلاً كلّ الأميركيين».
* من أسرة «الأخبار»