رامي عبده *ينشغل الشارع البريطاني منذ تأليف حكومة تحالف المحافظين والديموقراطيين الأحرار عقب انتخابات أيار (مايو) الماضي، بما سمّاه وزير الخزانة جورج أوزبورن الخفض القاسي والعادل للموازنة العامة. خفض سيتجاوز 28% من نفقات الوزارات السيادية، إضافة إلى الاستغناء عن أكثر من نصف مليون وظيفة في القطاع العام.
في ظل هذا المشهد من الخفض الحاد للإنفاق في القطاع العام في المملكة المتحدة، الذي ينسحب على أكثر من دولة أوروبية، تواصل حكومة سلام فياض الفلسطينية التوسع في الإنفاق العام رغم هشاشة، بل مأسوية، المشهد الاقتصادي الفلسطيني. يعتمد هذا التوسع على ثلاثة مصادر أساسية، في مقدمها تمويل الجهات المانحة، يليه الاقتراض من المصارف المحلية، وثالثاً زيادة العبء الضريبي على القطاع الخاص.
ورغم أنّ تقرير البنك الدولي الأخير المقدم لاجتماع «لجنة ارتباط الدول المانحة للسلطة الفلسطينية» نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي في نيويورك، قد أشاد بأداء حكومة فياض المالي والاقتصادي، إلا أنّ النزعة العالمية للتقشف في الإنفاق العام تدعونا إلى قراءة معمقة ما بين السطور.
ويبدو أنّ حالة من التناغم، أو التبني المتبادل، تربط ما بين فياض وصندوق النقد والبنك الدوليين، بدءاً من أعلى هرم المؤسستين وانتهاءً بفرق العمل الموجودة على الأراضي الفلسطينية.
لا ننكر أنّ البنك الدولي يحرص على إصدار تقارير دقيقة قدر الإمكان، لكنّها تحتوي في بعض الأحيان على صياغات تحتمل التأويل. كما يتعمد إحياناً إبراز بعض المفاصل دون غيرها أو إخفاء بعض الحقائق بما يمسّ جوهر المعلومات لتحقيق أغراض ذات بعد سياسي أو لإدامة وجود فرقه العاملة وضمان إدارته لأموال الجهات المانحة.
يضاف إلى ما سبق فكرة تسويق التعايش مع الاحتلال التي يروّج لها البعض، وخصوصاً في ظلّ الحديث عن جهوزية لقيام الدولة الفلسطينية وفق بعض التصريحات المنسوبة إلى قادة سياسيين.
لقد أشار التقرير الأخير إلى تحقيق الاقتصاد الفلسطيني نسبة نمو متوقعة توازي 8% في الضفة والقطاع على نحو موحد في عام 2010. لكن لم يُشَر الى أنّ نسبة النمو نتجت بالأساس من الارتفاع المفاجئ لمعدل النمو في الناتج المحلي في قطاع غزة، والتي تشير التقديرات الى تجاوزه 15% في النصف الأول من العام الجاري. ويعود ذلك إلى استرداد بعض العافية للاقتصاد الغزّي المتهالك والمعتمد أساساً على القطاع الزراعي.
الثابت هنا أنّ المحرك الرئيسي لمعدل النمو في الناتج المحلي، وكما أشار التقرير بوضوح، يكمن في المساعدات المالية الخارجية المقدمة للسلطة الفلسطينية بعيداً عن عوامل الدفع الاقتصادية الذاتية. كذلك أشار التقرير إلى غياب النمو الاقتصادي المستدام، وخاصة في القطاعات الإنتاجية، وهو ما يعني استحالة تقليص الاعتماد على المساعدات الخارجية. نستطيع الاستنتاج أنّ أيّ توّسع في الإنفاق حالياً ستكون له تداعيات خطيرة، بدءاً من استقلالية القرار السياسي الفلسطيني، مروراً بشلل في الحياة الاقتصادية، وانتهاءً بالخدمات العامة المقدمة للمواطن البسيط.
المحرّك الرئيسي لمعدّل نموّ الناتج المحلّي يكمن في المساعدات الخارجية بعيداً عن عوامل الدفع الاقتصادية الذاتية
وبموازاة الغياب التام للنمو المستدام، توسعت السلطة الفلسطينية في التحصيل الضريبي. وارتفع معدل تحصيل الإيرادات الضريبية في النصف الأول لهذا العام بنسبة 15% عما استهدفته الموازنة، وبنسبة تتجاوز 50% عن معدل التحصيل للنصف الأول من العام الماضي. في مقابل ذلك انخفضت الإيرادات غير الضريبية بنسبة تتجاوز 38% مما استهدفته الموازنة.
مثّل هذا الأمر توسعاً قاسياً في العبء الضريبي على المصالح الاقتصادية الخاصة في الدرجة الأولى. ونجد بالتالي أنفسنا أمام توجّه لسياسات اقتصادية تعزز النمط الاستهلاكي للمجتمع كمدخل للإيرادات، بعيداً عن تفعيل وتعزيز دور القطاع الخاص كقطاع منتج ولاعب أساسي في التنمية المستدامة.
اعتمدت منهجية رفع الإيرادات ضمن خطة أوزبورن للتقشف أساساً على زيادة الإيرادات غير الضريبية مع زيادة في ضريبة القيمة المضافة. يقابل ذلك خفض الضرائب على الشركات بمعدل أربع نقاط خلال الأعوام الأربعة المقبلة، إيماناً بدور القطاع الخاص في امتصاص حدة الأزمة المالية. كما ستخفض الضرائب على أكثر من 23 مليون مواطن، الأمر الذي لا يجعل من الأشخاص ذوي الدخل المحدود عرضة للتأثر الحاد بفعل سياسات التقشف.
في المقابل، غض البنك الدولي الطرف عن التوسع المستمر والمتسارع في الإنفاق العام لحكومة فياض، رغم أنّه طلب منها إبقاءه ضمن الغايات المستهدفة في الموازنة. وتبرز ملامح هذا التوسع كما يأتي:
1. قدرت موازنة العام الجاري بحدود 3.8 مليارات دولار وبعجز بلغ 1.8 مليار دولار يمثل حوالى 47% من إجمالي الموازنة ويعتمد تمويله على المساعدات الخارجية.
2. بلغ العجز في موازنة السلطة عام 2009 مبلغ 1370 مليون دولار، بما يمثّل أكثر من 26% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.
3. بلغ حجم الإنفاق الفعلي عام 2009 حوالى 3.2 مليارات دولار مثّلت النفقات الجارية منه ما نسبته 95%، فيما أنفق على المشاريع التطويرية ما دون 5%.
4. بلغت حصة الإنفاق على الأمن والنظام العام حوالى 35% من حجم الإنفاق.
5. وجّهت أكثر من 46% من حجم النفقات الجارية الى فاتورة الرواتب.
6. بلغ عدد الموظفين في القطاع العام نحو 160 ألفاً، عيّن منهم في الضفة الغربية 20 ألفاً في الأشهر التسعة الأولى من 2009 بما يمثل زيادة في عدد موظفي الضفة بنسبة 40%.
مع هذا التوسع في الإنفاق الفلسطيني وفي غمرة التسارع الدولي إلى تبنّي خطط التقشف، يقف الإنسان حائراً أمام تضخم موازنة السلطة الفلسطينية ما بين عام 2000 (بلغت آنذاك مليار دولار بفائض مالي) وعام 2010 (تضاعفت أربع مرات تقريباً بعجز يمثل حوالى نصف الموازنة العامة).
كيف يمكن أن نوفق بين سعي وزير الخزانة البريطاني أوزبورن إلى خفض الاقتراض الحكومي إلى 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يحلق العجز في موازنة السلطة إلى ما فوق 26% منه؟
لقد اتخذت الحكومة البريطانية الحالية إجراءات تقشّفية قاسية مدفوعة بمؤشرات تفضيلية إذا ما قورنت بتلك الخاصة بحكومة فياض. وبلغت فاتورة الرواتب في المملكة نحو 183 مليار جنيه أيّ ما يعادل 27% من إجمالي نفقات الموازنة العامة. كما بلغ حجم الإنفاق على الدفاع في بريطانيا، التي تخوض حربين في العراق وأفغانستان إضافة إلى هواجسها الأمنية، حوالى 32 مليار جنيه، ما يعادل أقل من 5% من إجمالي الإنفاق.
من الطبيعي أن يكون من الإجحاف المقاربة بين المملكة المتحدة والسلطة الفلسطينية، لكنّ من المنطق أن نأخذ بالقياس. تلجأ المملكة إلى شد الأحزمة وهي تملك استثمارات لا تغيب عنها الشمس. تملك من مصادر الإيراد وعوامل التنمية المستدامة ما لا تملكه إلا دول بعدد أصابع اليد الواحدة. كما أنّ معدل دخل الفرد فيها يعادل خمسة وعشرين ضعفاً معدل دخل الفرد الفلسطيني. ولديها أيضاً خامس أعلى ناتج محلي حول العالم. إذاً، تعتمد المملكة على التقشف، فيما تواصل السلطة الفلسطينية، التي لا تملك من مقومات الحياة سوى صمود شعبها، التوسع الحاد في الإنفاق وزيادة الاعتماد على الاقتراض والمساعدات الخارجية.
يرى البعض من أطراف المعارضة الفلسطينية أنّ هناك مشروعاً لرهن القرار السياسي الفلسطيني، إلا أنّ الأمر له تداعيات خطيرة على البعد الاقتصادي. ربما يكون هناك رهن للقرار السياسي يغذيه خوف السلطة من انهيارها وعدم قدرتها على البقاء، إلا أنّ الثابت هنا وجود ربط لكلّ مفاصل الحياة الفلسطينية بالاحتلال وبقرار الممول الغربي. هناك صلة للمواطن الفلسطيني البسيط بمشروع السلطة الفلسطينية مع التوسع المتواصل في التوظيف في القطاع العام. هناك علاقات بين المصالح الاقتصادية الفلسطينية ودولة الاحتلال ومشروعها التوسعي. يحدث هذا في ضوء الحديث عن زيادة الاعتماد الفلسطيني على الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة تتجاوز 52% ما بين عامي 2000 و2008، وخصوصاً في الأعوام الثلاثة الماضية.
كذلك يبرز إهمال القطاع الخاص الفلسطيني الذي تراكمت مديونيته في الأشهر الستة الأولى من هذا العام لتبلغ أكثر من 383 مليون شيكل (ما يعادل أكثر من مئة مليون دولار). إلى جانب التوسع في اللجوء إلى المصارف المحلية والاقتراض منها بما يعادل 213 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من عام 2010 ليصل حجم الدين العام مع نهاية شهر أيلول (سبتمبر) إلى حدود الملياري دولار (ما يمثل حوالى 40% من إجمالي الناتج المحلي). هذا دون أن ننسى الاعتماد المفرط على الدول المانحة.
لقد حمل الدكتور فياض منذ توليه وزارة المال عام 2003، ولاحقاً رئاسة الوزراء، شعار «الشفافية والمساءلة»، ويتطلب ذلك أن يطلعنا على التفاصيل والسياسة والرؤية. لا تكفي البيانات الشهرية والتراكمية التي تنشر على موقع وزارة المال، والمطلوب معلومات كاملة عن بنود الإنفاق وحقيقة التخصيص للإنفاق الأمني. ننتظر معلومات عن جدوى التوسع في التعيينات والرؤية لنظام التقاعد. كما نطلب معلومات شفافة عن الالتزامات المالية للسلطة ومستحقات هيئة التأمين والمصارف المحلية والتصور لمعالجتها. نحتاج إلى هذه المعلومات لا لحجبها مجدداً، ولكن ليكون الجميع مدركين لمفاعيل السياسات المالية المتبعة في وطن تحاصره الآلام وتنهش مشروعه أطماع الساسة.
ننتظر ذلك لأنّنا ندرك أنّ غياب الرقابة التشريعية عبر تعطيل عمل المجلس التشريعي وغياب جهاز الرقابة يمثلان فجوة لا يسدّها إلا ترسيخ سياسة النزاهة والشفافية.
* محلل مالي فلسطيني