كتب في مقالته الوداعية «سأحاول أن أكون صادقاً في أقوالي بقدر صدق السید المسیح». بينما في مقالة سابقة عَدَّ نفسه «من الآن فصاعداً مثل أيّ شاب لا مبالٍ في أزقّة أربيل وشوارعها، متمرداً على كلّ أصنام السلطة وتماثيلها، ننتظر مثل النبي إبراهيم الفرصة لنكسرها كلها».
نُشِرت المقالة الوداعية يوم 21 كانون الثاني (يناير) 2010. ثم لم يمر على ذلك شهران ونصف شهر، ولم يبقَ على تخرّج سردشت من كلية اللغات سوى شهر واحد، حتى نفّذ المجرمون تهديدهم. كانت الساعة الثامنة والنصف من صباح الرابع من نيسان (أبريل)، وعند مدخل كليته، هي آخر لحظة يرى فيها نور الشمس. تقدم منه رجال غرباء، ضربوه أمام زملائه واقتادوه إلى سيارتهم التي انطلقت به بعيداً دون أن يحرك أيّ من حرس الجامعة ساكناً. اتجهت السيارة صوب مدينة الموصل المجاورة حيث ألقي سردشت هناك، جثةً هامدة وقد أطلقت في فمه رصاصتان. طريقة في القتل تكشف عن حقد
جنوني.
كانت الجريمة فضيحة سياسية كبرى لأنّها أقوى قصة من القصص الكثيرة التي حصلت في السنوات الأخيرة، وكشفت ما تحت الصورة المقدسة التي ترسمها السلطة الكردية لنفسها. فلم يكن الواقع الذي كتب عنه سردشت خافياً عن الجمهور الكردي (وهو على كل حال لا يختلف عن واقع كثير من بلدان المنطقة). ولكن ما انكشف الآن هو استعداد هذه السلطة لاقتراف أبشع الجرائم بحق من يفضح حقيقتها حتى لو كان شاباً حسن النية مثل سردشت، ظلّ حتى آخر لحظة يعتقد أنّ ما قام به كان مجرد «كتابة كوميدية». وإذ قابلت سلطة الإقليم الاحتجاجات الجماهيرية العفوية على الجريمة بخطبها القومية المعتادة عن مؤامرات الأعداء و«الحاسدين»، فإنّ هذا لم ينفع عندما تدخلت منظمة العفو الدولية وطالبت بتحقيق مستقل. فتألّفت لجنة «مستقلة»، أعضاؤها وزير الداخلية ومسؤولو الأمن ورئيس استخبارات الحزب الحاكم مسرور البرزاني (ابن رئيس الإقليم وشقيق الفتاة التي ذكرها القتيل في مقالته). كانت بالطبع مهزلة فجّة: المشتبه فيه وصاحب المصلحة في الجريمة يؤلّف لجنة للتحقيق فيها. كان معظم الناس في كردستان يعرفون هوية القاتل، ويهمسون به سراً، بينما ينهمك هو في أداء دور المحقق الباحث عن الحقيقة. وكان متوقعاً ألّا يترك القتلة هذه المناسبة تمر دون أن يكملوا انتقامهم. فلم يشف غليلهم حتى قتلهم سردشت بأيديهم (هناك شائعات تسمي الشخصية التي أطلقت بنفسها الرصاصتين في فم سردشت) بل يجب أن يمثّلوا به: تحقيراً وتقذيراً. فأخرجت اللجنة أتعس تلفيق يمكن أن يخطر على البال مفاده أنّ جماعة أنصار الإسلام قتلت سردشت الذي كان متعاوناً معها.
ليس الشهود وتفاصيل الأحداث فقط هما من يدلّ على هوية الجناة، بل تدل عليهم تصريحاتهم ولجانهم التحقيقيّة. فمن المستحيل أن يدخل أعضاء جماعة مسلحة مطلوبة للسلطات الى جامعة صلاح الدين، التي تتمتع بحراسة أمنية جيدة، ويعتدوا على طالب ويخطفوه بينما رجال الأمن يتفرّجون. إنّ الدليل الرئيسي على استحالة أن يكون القتلة من أتباع جماعة مسلحة، وعلى أنهم، على وجه الدقة، يتبعون جهازاً أمنياً حكومياً هو أنّهم (وبإقرار لجنة التحقيق) قاموا بعملية الخطف أمام الأنظار من غير أن يحملوا بأيديهم سلاحاً. هذا ليس سلوك منظمات مسلحة مطارَدة.
كشفت الجريمة استعداد السلطة في إقليم كردستان لاقتراف أبشع الجرائم بحق من يفضح حقيقتها
لكن اللعنة لازمت القتلة على الدوام، بحيث بدا لهذه القصة، وهي لم تنته إلى اليوم، مساران متعاكسا الاتجاه بطريقة عجيبة. الأول هو مسار الإجرام بحق سردشت حياً وميتاً، والثاني هو مسار انتقامه هو من القتلة. وقد حافظ المساران حتى الآن على إيقاع مضبوط. فاغتيال سردشت أريدَ له أن يُرهب الناس ويسكتهم، فإذا به يفجّر ثورتهم ويصنع فضيحة للطبقة الحاكمة هزت كردستان كلّها. فتحوّلت جنازته إلى تظاهرة احتجاج كبرى استلهم فيها المشاركون شجاعته، وطالبوا بمحاكمة القتلة، وضجت الصحافة والشارع والجامعات بالإدانة بجرأة وحجم لا سابق لهما. وحين نفى الجهاز الأمني صلته بالجريمة أدّى هذا إلى تأكيد الشكوك فيه بالنظر الى تفاصيل الحادث التي لا تقبل تفسيراً آخر. وحين أرادت الأجهزة الأمنية إلقاء تهمة الإرهاب الجاهزة على سردشت، لجهلها باتجاهه الفكري، جاءت النتيجة حالة علنية من التقزّز من السلطة ووسائلها الوضيعة. وأخيراً حين ألقوا الجريمة على منظمة أنصار الإسلام أصدرت الأخيرة بياناً تكذّب فيه هذا الادعاء، وتعلن بوضوح أنّها لن تخجل لو أنّها كانت فعلاً قتلته. فكان هذا بمثابة صفعة على وجه لجنة التحقيق، ما أثار مطالبات محلية وعالمية بإجراء تحقيق «حقيقي» هذه المرة، ولا يزال الضغط مستمراً حتى اليوم على الحكام البارزانيين. أما الجناة الحقيقيون، فيكاد يصيبهم بالجنون أنّ «شاباً صغيراً» يتغلب عليهم ويفضحهم في حياته وبعد موته، وأنّهم كلما حاولوا طمس الجريمة قامت صارخة في وجوههم، وأنّهم مهما فعلوا ارتد الى نحورهم فكأنّهم عالقون في وَحْل كلما تحركوا للتخلص منه ازدادوا غرقاً
فيه.
* كاتب عراقي