strong>ورد كاسوحة*لا ينفكّ الخطاب الرسمي السوري يؤكد تمسّكه باستعادة الجولان المحتلّ كاملاً في أيّ مفاوضات محتملة مع إسرائيل. وهذا أمر صحّي وجيّد في المجمل. لكنّ المشكلة أنّ الطرف الذي يتصلّب هذا الخطاب في مواجهته يملك ما لا يملكه السوريون وما لا يستطيعون المضيّ في معركتهم من دون أخذه في الحسبان: عامل الأرض. وهو عامل تجيد إسرائيل التعامل معه بخلاف كثير من الأنظمة العربية. وأكثر ما يساعدها في ذلك وقوف عامل آخر إلى جانبها: الزمن. فمن يملك الأرض (ولو بالقوة) والزمن يملك كلّ شيء. وما يحصل اليوم في الضفة الغربية والقدس والجولان المحتلّ يؤكد ذلك. فبؤرة الحدث في فلسطين المحتلة اليوم هي الاستيطان في القدس والضفّة الغربية. إذ يجعل قضم إسرائيل المتزايد لأراضي الضفّة والقدس من الصعب قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967(إذا افترضنا أنّ هذه هي حدود فلسطين، وهي ليست كذلك). إذ ما الجدوى من دولة مسخ لا تملك من الأرض ما يتيح لها إمكان الزعم بأنّها فعلاً دولة. دولة تملك السيادة على أراض متصلة لا منفصلة (اقرأ: كانتونات). وسيادتها هذه تفرض وجود قوات مسلّحة برية وبحرية وجوية تحمي هذه المساحة من الأراضي المتصلة، لا ميليشيات يدرّبها الاحتلال لحمايته من أصحاب هذه الأراضي (اقرأ: ميليشيات دايتون في الضفة الغربية).
هنا لا مكان للدعاية المبالغ فيها كما تقول أبواق نيوليبرالية، فما يحصل على الأرض أسوأ بكثير، ولا يحتاج أصلاً إلى دعاية. يكفي أن نقرأ التقارير التي تنشرها منظمات حقوقية فلسطينية ويهودية مناهضة للاستيطان حتى ندرك أنّ حجم الضرر بات كبيراً إلى حدّ لا يمكن تداركه. فكلّ يوم هنالك خطط جديدة للبناء في الضفّة والقدس. وكلّما أقرّت خطّة جديدة ازداد عدد الفلسطينيين المطرودين من بيوتهم وعقاراتهم وأراضيهم. والخطورة في الأمر أنّ ما بدا قبل سنوات عملاً اعتباطياً لنزع ملكية الفلسطينيين لأراضيهم، تحوّل اليوم إلى خطة منهجية تكرّس لها الدولة العبرية كلّ مواردها ومؤسساتها. لنقل إنّها عملية ترانسفير متدرّجة بدأت قبل عقود (لا سنوات) وتكاد تصل اليوم إلى خواتيمها.
كلّ ذلك وليس هناك من يرفع الصوت إلا أصحاب الأرض وحفنة من المتضامنين فعلياً معهم (وهؤلاء في معظمهم أجانب، لا عرب). فهم من يطردون من أرضهم، وهم من يدفعون ثمن مهزلة «التفاوض من أجل التفاوض». هل من يخبر محمود عباس بذلك؟ هل من يقول له إنّ استمراره في التفاوض في ظل النزف الديموغرافي في الضفة والقدس سيجعل من دولته الموعودة أثراً بعد عين؟
في كلّ الأحوال، لا تحتاج الديناميات المناهضة للاستيطان إلى مناشدات مماثلة، رغم كلّ ما يطالها من محاولات اضطهاد وتدجين. وأثبتت كلّ التجارب السابقة أن إخضاع ديناميات كهذه لأجندات سلطوية سيضعفها ويزيد من انكشافها أمام أعدائها. فعندما تتدخّل لمساعدتك سلطة تنسّق مع أعدائك أمنياً وتتشارك وإيّاهم معلومات عنك وعن نياتك، لا تعود مساعدة بل تصبح أمراً آخر تماماً. وعليه لا يبقى أمام هؤلاء المنتزعين من أرضهم إلا مواجهة همجية المستوطنين باللحم الحي. إنّه الثمن الذي يتعيّن عليهم دفعه لقاء البقاء في الأرض والحفاظ على الهوية. ماذا عساهم يفعلون إذا كان قرار التواطؤ عليهم قد صدر بالإجماع؟ إجماع العرب وفلسطينيي دايتون والمجتمع الدولي المنافق.
هذا عن الضفة والقدس، أما الجولان فقصته مع الاستيطان باتت عرضة لسيناريوهات مماثلة، وإن اختلفت السياقات المؤدية إليها. والاختلاف بين الحالتين هنا متّصل بانقطاع التواصل بين الجولانيين وأهلهم في سوريا، بخلاف ما هي عليه الحال في الضفّة مثلاً. يزيد هذا الأمر على هؤلاء صعوبة حراكهم، إذ لا دولة تحتضن ولا سلطة (وطنية) تأمر أو تنهى. بكلمة أخرى لا وجود فعلياً لسلطة تتدخّل لمنعك من مقاومة الاستيطان أو حضّك عليها. ذلك أنّ النظام في دمشق غائب عن تلك البقعة من أرضنا منذ عام 1967، بفعل واقع الاحتلال، ما يجعل من سلطة العدو الآمر الناهي في الجولان. وهذا يعني أنّ أيّ تحرك مطلبي أو جماهيري سيصطدم حكماً بهذه السلطة، وسيجبر الجولانيين على التعامل معها كما لو كانت المعطى الوحيد على الأرض. فقوة عسفها لا حدود لها. ومواجهة قوة كهذه في ظل الانقطاع عن المحيط أمر يقارب الانتحار. لذا اختار الجولانيون مبدأ النضال من الداخل بوصفه البديل الوحيد الممكن في هذه المرحلة. وكان لهم في ذلك صولات وجولات. لكن موضوع الاستيطان بقي غائباً نسبياً عن أخبار أهلنا وصراعهم مع الاحتلال. ولا ندري إن كان هذا بفعل التقصير الإعلامي أو بفعل الرقابة التي تفرضها إسرائيل على الأخبار الآتية من الجولان المحتلّ.
ورغم هذه الرقابة، طالعتنا صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أخيراً بأخبار مقلقة عن تزايد عدد المستوطنين الصهاينة في الجولان. وفي التفاصيل، بحسب الصحيفة الإسرائيلية، أنّه «في عام 2000 كان يعيش في نطاق «المجلس الإقليمي للجولان» 9500 نسمة، أما هذه السنة، عشية الحملة الجديدة، فيبلغ عدد السكان 14000 نسمة. كما أنّ المجلس المحلي «كتسرين» سجّل في السنوات الخمس الأخيرة ارتفاعاً حاداً من 6500 نسمة إلى نحو 8000، إذ إنّه في السنة الأخيرة فقط انضمّ إليهم 700 شخص جديد». قد لا تمثل هذه الأرقام شيئاً يذكر بالنسبة إلى ما يحدث في القدس والضفة الغربية يومياً. لكنّ المعيار هنا لا يتعلق بالكمّ، بل بالكيف. فبمجرد أن تدرج إسرائيل هذه الزيادة في نطاق تخطيطها الاستراتيجي لمستقبل الهضبة المحتلة تكون قد أخذت تلقائياً من رصيد أعدائها. ولذلك لا بد من أن نقلق قليلاً، ومن أن نضع أمراً كهذا في حساباتنا عندما نتفاوض مستقبلاً على استعادة الجولان. فالتفاوض

سجّل المجلس المحلي «كتسرين» في 5 سنوات ارتفاعاً حاداً من 6500 نسمة إلى نحو 8000
من دون القدرة على المناورة لا يعود تفاوضاً. وفقدان أي شبر من الجولان اليوم سيعطّل تلقائياً هذه القدرة. ومواجهة هذا الأمر يجب أن تكون على مستويين: رسمي وشعبي. وما يعنينا هنا هو المستوى الشعبي. وصياغة هذا المستوى من المواجهة غير ممكنة من دون إسهام أهلنا في الجولان. فهم وحدهم من يملكون الردّ على هذا التمدّد الاستيطاني بين ظهرانيهم، وخصوصاً أنّ إسرائيل تحرص على رعايته اقتصادياً، وتظهره كما لو كان حلاً لأزمة السكن بين محدودي الدخل من المستوطنين. هنا نصبح أمام خطاب انتهازي خطير يزاوج بين الإيديولوجيا والبراغماتية، ويلعب على عنصر الشعبوية المفضّل لدى مجتمع الاستيطان اليميني في إسرائيل. وستفضي خلطة كهذه حتماً إلى سماع تعليقات صهيونية نموذجية من قبيل ما أوردته «معاريف» في تقريرها على لسان إحدى العائلات التي استوطنت حديثاً في الجولان. فيقول أفرادها إنّهم كانوا يخشون في البداية من انسحاب ممكن من الجولان المحتلّ، ولكن ذلك لا يخطر لهم على بال اليوم، في ظل البناء المتسارع في الجولان.
هذه عيّنة عن وعي فطري لعائلة صهيونية يمينية تتعامل مع إحلالها في مستوطنة على أرض الجولان، بوصفه إنهاءً لملف الهضبة المحتلّة. ونجاح الاحتلال في إيصال انطباع مماثل الى عائلة بسيطة كهذه يعني أنّ قضم الأرض قد بدأ منذ الآن في تغيير الوقائع التي يفترض أن تنعقد حولها قضية استعادة الجولان كاملاً. وإلى حين تبلور صيغة معقولة (شعبية) تبقى الوقائع على حالها وتحدّ من تآكلها قدر الإمكان، لا بدّ من طرح سؤال عن جدوى العملية التفاوضية برمّتها. نقول ذلك في ضوء ما يحدث في الضفة الغربية والقدس من تآكل للأرض وتفريغ لساكنيها. وإذ يبدو الوضع مختلفاً قليلاً في الجولان، إلا أنّه مرشّح هو الآخر لأن يذوي، في حال تصاعد وتيرة الاستيطان، وارتفاع تعويل الإسرائيليين على عامل الاقتصاد. عامل باستطاعته أن يفعل ما لم تستطع فعله الإيديولوجيا الخالصة.
* كاتب سوري