strong>جنى نخال*أمشي في الأزقة أبحث عن بيروت، وأحاول ألّا أبدو في علاقة رومنسية طفولية مبالغ بها مع مبان وأحجار. أراقب ما يحصل في المدينة وأحس بأنّي أتابع فيلماً أميركياً رديئاً. في هذا الفيلم يمشي البطل في المشهد الأخير وتتطاير من حوله الأبنية وتتتابع الانفجارات، وهو يستمر في المشي بهدوء، حركة الكاميرا البطيئة ترافقه، ولا يكترث لشيء. هكذا صرنا. تنهار المدينة من حولنا وتذوي ولا نحرك ساكناً، بل ندير ظهورنا ونمشي. ننقّل خطانا ببطء متناسين علاقة ولدت وتنامت وتغيّرت مثلنا تماماً.
فالأبنية والمدينة، أي المكان العام، ليست الباطون والأحجار والشكل المعماري فقط. وذكرى قبلة أو ضحكة أو صدفة تحت ضوء البلدية البرتقالي خير دليل، فالمكان يحمل أكثر ممّا تراه العين وينسج علاقة مع مرتاديه.
لكن ماذا يجري في بيروت؟ ولماذا؟ وهل هذا هو الوضع/ التطوّر «الطبيعي» للمدن؟
ليس هناك من شك بأنّ العلاقة بين المدينة والسياسة الاقتصادية علاقة قوية ومباشرة. فيمكن النظر إلى المدينة على أنها الترجمة الشكلية الملموسة للاقتصاد. وتأتي السياسة الاقتصادية الحريرية منذ أوائل التسعينيات، حقبة أولى، والفترة التي تلت اغتيال الحريري الأب، مرحلة ثانية، شاهداً على التغيير المديني الحاصل في بيروت تحت ضغط رأس المال.
لقد حصلنا في الحقبة الأولى على مثال متكامل للتكافل بين رجال الدولة والميليشيات ورجال الأعمال والمهندسين، وذلك في سوليدير ومشروع إعادة إعمار وسط البلد. كان اللاعبون إذاً أوّل خطوة لإدخال السياسة النيوليبرالية على الشكل المديني. وقد أتت هذه الخطوة لتحتلّ ثلاث مساحات مهمة: الأملاك الخاصة والعامة، ورؤية المدينة، والذاكرة. فقد أحكمت شركة خاصة سيطرتها على أهم منطقة في بيروت وألغي دور المجتمع في رسم خريطة الإعمار. كما تمّ محو ذاكرة المكان والكذب على الناس بأنّ بيروت لم تكن ما يذكرونه إطلاقاً.
بيد أنّ الشكل المعماري والمديني الحالي لوسط بيروت هو مشكلة بحد ذاتها. فالأبنية والطرقات والأرصفة والجنائن والأماكن العامة مصمّمة بشكل يمنع خلق مساحات للتغيير وتأثير مستخدمها عليها. فواجهات الأبنية ممنوعة من استقبال الغرافيتي والإعلانات والملصقات، وشكل الشخص وهندامه(ها) يقرّر إمكانية استعماله (ها) للمكان. هل تشعر الفتاة وهي تمشي في شارع المصارف في وسط بيروت كما تشعر وهي تمشي في شارع الحمرا مثلاً أو بربور؟ وهل يقارن تأثير الجدران «النظيفة»، التي تعطي إحساساً بالوجود في مستشفى، بتأثير الأوراق المعلقة على العمد والرسوم والإعلان عن مسرحية جديدة؟
أتكلم هنا عن شكلين متناقضين للمدينة: شكل منزّل نهائي يحمل ما يحمله من التوتاليتارية، وشكل حيّ ينمو ويتغير مع تغيّرنا. الشكل الأول هو النتيجة المباشرة للرأسمالية: الإيمان الأعمى بالملكية الخاصة وانفتاح الأسواق أمام كبرى الشركات الأجنبية وسيطرة رجال الأعمال والسلطة. نصل إلى الحقبة الثانية، أي ما يحصل في بيروت الآن. فبينما اختُصر تأثير الحقبة الأولى على وسط بيروت، وهو مكان محدود جغرافياً، وقُطّعت أوصاله عن باقي المدينة، تنامت حدود الحقبة الثانية إلى بيروت الكبرى. وأصبح هذا التأثير مفهومنا المقبول لكيفية التعامل مع المدينة. فهدم مبان في عائشة بكار وبناء برج مكانها لا يدفع أحد للتساؤل والغضب. فالعبارة المتداولة هي «اشترى الأرض وراح يعمّر بملكو»، وبالتالي فما همّنا نحن؟
نرى بيروت تتغير أمامنا ولا نفعل شيئاً، لأننا نظن أنّ حقنا محدود بملكيتنا الخاصة. لكن علاقتنا بالمكان وذاكرتنا، يعطينا الحق بتقرير شكل هذا المكان. فهذه الأبنية الصغيرة في عائشة بكار ليست أحجاراً قديمة وحديداً فقط.
تخرج الجارة في الصباح وتنشر الغسيل، تسلّم على بائع السمك الذي يغطي صوته على صوت بائع الخضر المتجول... تراها جارتها في الطابق الثاني فتسأل عن ابنها في كندا وتدعوها إلى فنجان قهوة. هذا ما نراه كلّ صباح قادمين من الزيدانية. نرى المباني والناس وبائع المواد الغذائية ومحال الذهب التي ترتادها نسوة المنطقة كلما جمعن القليل من المال. المباني ليست ملكاً خاصاً وليست أحجاراً فقط. فعلاقتنا بها ديناميكية وحية، وفيها من الإنسانية ما يجعلها تشبه علاقتنا بالناس.
علاقتنا الأولى مع المكان هي السكن. والسكن لا يحدَّد بالمنزل فقط. فأنا أسكن بيتي ومبناي وحيّي ومدينتي وأتفاعل مع جيراني وبائعي الخضرة وسائقي سيارات الأجرة. مساحة سكني هي إذاً أكبر من حدود ملكيتي الشخصية.

إحساسنا بانعدام سلطتنا لتغيير مجرى الأمور هو رضوخ لرأس المال واعتراف بشرعيته وملكيّته لفضائنا

يرى الفيلسوف مارتن هايديغر أنّ فعل «السكن» (dwelling) مربوط مباشرة بالتفكير والحياة. «نحن لا نسكن لأنّنا بنينا، لكنّنا نبني وقد بنينا لأنّنا نسكن»، يقول. ويبحث هايديغر في اللغة عن معنى السكن. فالجذور السكسونية للكلمة معناها «أن يكون بسلام». وكلمة «سلام» تعني «الحُرّ» الذي يعني «محميّ من الأخطار والأذى» و«محميّ من شيء ما» و«محفوظ».
ويكمل هايديغر مفسّراً «أن يسكن، أن يكون بسلام، معناه أن يكون بسلام مع الحُرّ، ومع الحامي، ومع المساحة الحرة التي تحمي كل شيء في كينونته. إنّ الطابع الأساسي للسكن هو الحماية».
لننظر إلى معنى كلمة «سكن» بالعربية اعتماداً على نظرة هايديغر. «سكن» أي «هدأ، خمد، خف» (معجم المعاني العربي) و«سكن لهم» يبعث «الطمأنينة أو الرحمة لهم» (كلمات القرآن). وحالة من سكن تأتي للمتحرك «سكوناً» أي الذي «وقفت حركته، والمتكلم سكت والمطر فتر والريح هدأت والنفس بعد الاضطراب هدأت وإليه استأنس به واستراح إليه والمكان وبه سكناً وسكنى أقام به واستوطنه» (المعجم الوسيط) وهي حالة «السكينة الوداعة والوقار والهدوء» (لسان العرب).
فالسكن والسكون من المفاهيم المتصلة بوجود الإنسان في مكان ما واطمئنانه وإحساسه بالسلام، على عكس الحركة والاضطراب.
نحن نسكن في بيروت، لا نسكن الـ80 أو 200 متر مربع التي نستأجرها أو نملكها. وإحساسنا بالأمان والحماية نابع من تعاطينا مع المكان وإمكانية حمايتنا/ محافظتنا على ما يحمينا. فالإحساس المستمر بأنّ ما هو الآن غير ما سيكون غداً، يخلق شرخاً بين الإنسان والمكان. إنّ إحساسنا بانعدام سلطتنا على تغيير مجرى الأمور ليس سوى رضوخ لضغط رأس المال واعتراف بشرعيته وملكيّته لفضائنا. والمدينة هي مكان سكننا وعملنا ومكان لقاء العائلة والأصحاب ومكان الترفيه. فإذا أخذوا منا هذا كلّه، ماذا يبقى؟
* مهندسة معماريّة لبنانيّة