مصطفى بسيوني*يبدو أنّ النظام في مصر قد أصبح، في الفترة الأخيرة، أقل صبراً وتسامحاً مع حركات الاحتجاج والمعارضة. وما سمّي هامش الديموقراطية، وعُدّ مرناً وقابلاً للاتساع في السنوات الماضية، تحوّل عبئاً على مشاريع النظام الذي يتهيأ للانقضاض عليه. تبدو نوايا النظام تجاه هامش الديموقراطية، المتواضع أصلاً، أكثر وضوحاً بعد القيود الجديدة التي فرضها على وسائل الإعلام. وتنوّعت هذه القيود فكان منها الرسمي، مثل فرض تصاريح خاصة على إرسال الأخبار عبر الرسائل القصيرة بالهاتف المحمول، وكذلك الموافقة المسبقة لحركة وحدات البث المباشر للقنوات الفضائية. كما كان هناك قرار إغلاق عدد من الفضائيات، رغم أنّها ليست قنوات إخبارية، بما يحمله ذلك من تهديد ضمني للجميع. أما القيود غير الرسمية، فكانت التآمر على جريدة «الدستور» المعارضة، وتوجيه تحذير عبرها لكلّ الصحف.
ما حدث أخيراً مع وسائل الإعلام سبقه قمع مباشر للحركات الاحتجاجية. ففي أيار (مايو) الماضي، استخدمت قوات الأمن القوة لفضّ اعتصام عمّالي سلمي أمام مجلس الشعب، وقد تعرّض العمال للضرب والاعتقال. ولم تكن تلك الحادثة الأخيرة من نوعها. ففي تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، اقتحمت قوات الأمن مبنى اتحاد العمال الذي اعتصم فيه عمال مفصولون وفرّقتهم بالقوة، ما أدّى إلى إصابة أحدهم. تلا ذلك فض اعتصام آخر لعمال مركز المعلومات في وسط القاهرة.
شهدت أيضاً بداية الفصل الدراسي قمعاً عنيفاً للحركة الطلابية واعتداءات على الطلاب وإحالتهم على النيابة. وكان أبرز هذه الاعتداءات، ضرب أحد الضباط طالبة في جامعة الزقازيق، فضلاً عن الكثير من الانتهاكات في مختلف الجامعات. أكّدت هذه الأحداث التضييق على تظاهرات المعارضة، والعنف الزائد من جانب قوات الأمن تجاهها. وكان آخرها منع المتظاهرين من التجمع أثناء محاكمة أفراد الأمن المتهمين بقتل الشاب خالد سعيد في الإسكندرية، والقبض على عشرين منهم. وربما كانت الطريقة التي حسمت بها انتخابات مجلس الشورى في حزيران (يونيو) الماضي عبر التزوير الفاضح، أبلغ رسائل النظام. هذه الرسائل تبلغ الجميع أنّ ما يسمى هامش الديموقراطية قد انتهى، ولن يسمح سوى لمن يختاره النظام بالوجود، وهو نفسه ما يجري إعداده لانتخابات مجلس الشعب.
تتجمع غيوم الاستبداد في سماء القاهرة، مُنهية بذلك الفترة التي تصاعدت فيها حركة المعارضة وتجاوزت خلالها الخطوط الحمراء ومقدسات النظام المصري. يبدو هذا الحديث منطقياً ومستنداً إلى وقائع وأحداث حقيقية جداً، لكنّه يغفل أمراً واحداً. إنّ ما يسمّى هامش الديموقراطية، الذي اتسع في السنوات الماضية، لم يكن بحال من الأحوال منحة من النظام الحاكم يمكنه استرداده عندما يريد. لقد أنهت حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، التي انطلقت في مصر عفوياً في أيلول (سبتمبر) 2000، مرحلة طويلة من الركود السياسي. ورغم أنّ التظاهرات كانت بالأساس موجهة ضد العدو الصهيوني لا ضد النظام المصري، لم تخلُ من توجيه النقد له. إلا أنّها لم تلبث أن مثّلت خلفية مناسبة لتنامي معارضة أكثر جذرية للنظام وخارجة عن أطر الأحزاب الرسمية التي يرعاها. وإذا كانت القضية الفلسطينية قد مثّلت باعثاً لحركة معارضة جديدة في مصر، إلا أنّ المعارضة لم تتوقف عندها بل امتدت لمناهضة الحرب على العراق والإصلاح الديموقراطي والقضايا الاجتماعية.
هناك منطق يظهر واضحاً في صعود تلك الحركة على مدى السنوات العشر الأخيرة. لقد كانت مرحلة التسعينات هي مرحلة الوعود الكبرى: تسوية الصراع العربي ـــــ الصهيوني بما يضمن الحقوق الفلسطينية، إصلاح اقتصادي يقضي على الفقر والبطالة، إصلاح ديموقراطي ينهي حقبة الطوارئ ويفتح الأبواب للمشاركة السياسية بعد القضاء على الإرهاب. لكن تبيّن في مطلع الألفية أنّ تلك الوعود لم تكن سوى سراب. فالقضية الفلسطينية في نفق مظلم، والإصلاح الاقتصادي لم يزد الفقراء إلّا فقراً، وفُتحت ملفات فساد ضخمة في عملية الخصخصة والتكيّف الهيكلي. كما أنّ الاستبداد السياسي استمر، مدعوماً بقانون الطوارئ.
كان انفجار الاحتجاجات طبيعياً جداً في تلك المرحلة. ولو لم تشعل الانتفاضة الفلسطينية الفتيل، لكانت أحداث أخرى قد تكفّلت الأمر. المهم أنّ الدولة لم تكن متسامحة في أي وقت من الأوقات مع تلك الحركة. فسرعان ما حاولت، بكل السبل، قمع حركة دعم الانتفاضة التي فاجأت النظام في 2000. وشهدت تظاهرات التضامن عنفاً أمنياً لا ينمّ عن أيّ تسامح، وكان استشهاد الطالب محمد السقا في تظاهرة في الإسكندرية في 2001 إحدى نتائج ذلك القمع. ولم تتوقف ملاحقة نشطاء الحركة في أي لحظة. وما شهدته حركة مناهضة الحرب على العراق في آذار (مارس) 2003 فاق التوقعات. إذ هاجمت قوات الأمن أحزاباً ونقابات مهنية وضربت نواباً في البرلمان وحوّلت ميادين القاهرة إلى ساحات حرب. وفي بداية حركة الإصلاح الديموقراطي اتّبعت الدولة أسلوب العصابات باختطاف الصحافي عبد الحليم قنديل وإلقائه عارياً في الصحراء بعد تجرّئه على نقد سيناريو توريث الحكم علانية. وبالمناسبة، كان ذلك الحدث الشرارة التي أطلقت حركة مناهضة التوريث.
لم يتوقف قمع الحركات الاحتجاجية عند حركة القوى السياسية. فقد كان لحركة النضال العمالي والاجتماعي نصيبها الوافر منها. ولا يتعلق الموضوع فقط بما حدث أخيراً وما ذكرناه، بل إنّ الملاحقة الأمنية والإدارية والنقل التعسفي من مكان العمل والفصل والاعتقال كانت كلّها آليات لمواجهة نشطاء النضال العمالي. لكنّ الطريقة التي قمعت بها الدولة انتفاضة مدينة المحلة في 6 نيسان (أبريل) 2008 والتي تضمنت إطلاق الذخيرة الحية وسقوط ضحايا،

هامش الديموقراطية ليس منحة من النظام الحاكم يمكنه استردادها عندما يريد
عكست طبيعة الهامش الديموقراطي الذي يتشدق به النظام. ما سبق من أمثلة وغيرها الكثير، يؤكد قبل أيّ شيء أنّ حركة النضال السياسي والاجتماعي سددت كلياً كلفة أيّ زيادة في مساحة الحريات في مصر في الفترة التالية، مسبقاً. كما أنّ هذه الزيادة لم تُمنح من أي أحد ولم تكن نتيجة أي ضغوط خارجية. ويؤكد ذلك حقيقة أنّ حركة تصاعد النضال السياسي والاجتماعي في مصر لم يواكبها أي إجراء ديموقراطي من جانب الدولة، مثل إلغاء قانون الطوارئ أو وقف التعذيب على أيدي الشرطة أو التوقف عن تزوير الانتخابات أو تقديم المعارضين للمحاكم العسكرية. وهذا يعني أنّ الديموقراطية لم تكن أحد خيارات النظام في أيّ وقت.
وإن بدا اليوم أنّ صبر النظام تجاه المعارضة الخارجة عن سيطرته قد نفد، وإن كان النظام يتجه للانقضاض على هامش الديموقراطية الذي انتزعته سنوات النضال، فلا جديد في الأمر. فالنظام الذي لم يترك عصا الطوارئ من يده لحظة واحدة طوال ثلاثين عاماً، لم يبد أي صبر تجاه المعارضة. كما أنّه لم يوفر أي قمع ضد حركات النضال. ومع ذلك، لم تكفّ حركات النضال عن توسيع مساحة الديموقراطية. وربما كان ما جرى في الأسبوع الماضي مع موظفي مركز المعلومات مثالاً جيداً. فقد فضّت قوات الأمن، كما ذكرنا، اعتصاماً للمئات منهم في منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، رغم أنّهم كانوا يهتفون «يا وزير الداخلية لك منا ألف تحية»، في إشارة إلى أنّهم لا يحملون عداءً للأمن الذي يحاصرهم. وبعد فضّ اعتصامهم بنحو أسبوع فقط، عاد خمسة آلاف متظاهر، وغيّروا هتافهم إلى «يا وزير الداخلية لك منّا ألف ضحية»، مؤكدين للوزير استعدادهم للتضحية.
الأهم أنّ ما يجري الآن من تعبئة لقوة الدولة للانقضاض على ما انتزعته القوى المناضلة، ليس أول محاولة في هذا الشأن. فقد سبقت تلك المحاولة، محاولات حشد النظام خلالها كلّ طاقته من القمع لإجبار حركة النضال على العودة إلى خطوط التسعينات. نذكر تماماً ما قام به أثناء تعديل مواد الدستور وانتخابات الرئاسة في 2004 و2005 وما وصل إلى حد الاعتداء الجنسي على المتظاهرات في أيار (مايو) 2005، أو الحملة الأمنية الرهيبة في نيسان (أبريل) 2008. اذا كان مقدراً للنظام النجاح في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2000، لاستطاع تحقيق ذلك في أيّ من محاولاته السابقة. لكنّ الحركة التي استطاعت مواجهة الكثير من المحن على مدار العشر سنوات السابقة، وتمكنت من تطوير نفسها جزئياً، والاستمرار رغم الهجمات المتتالية، قادرة على الصمود في مواجهة الهجمة الجديدة وقلب السحر على الساحر.
* صحافي مصري