ما وراء كوتونو
تعليقاً على الحكم القضائي الذي صدر في قضية كارثة كوتونو:
قُدِّر لي من خلال موقعي متابعة كل جوانب الكارثة، وألّفنا لجنة متابعة لمواجهة الآثار الكارثية، والعمل على لفت نظر المسؤولين لأهمية فتح خطوط جديدة مباشرة لشركة ميدل إيست مع البلدان التي لا خطوط فيها لتؤمن التواصل مباشرة مع الوطن (...). شرحنا للرؤساء الثلاثة الصعوبات التي يلقاها المغترب في مطارات الترانزيت أثناء تنقله. ونقلنا لهم أن التعامل مع الطائرة المنكوبة برغم كل علامات الاستفهام حولها لم يكن توفيراً ولا ترفاً بل حاجة ملحة. رئيس الجمهورية السابق اميل لحود، وأثناء استقباله لنا، أفادنا بأن قرار فتح خط جديد بناءً على طلبنا قد اتخذ (والمثير للغرابة أن ذلك القرار لم ينفذ حتى اليوم). أمّا التطمينات التي وعد بها مسؤولونا بالنسبة للتعويض، فقد ذهبت أدراج الرياح عندما نزلت مفاجأة التعويضات الهزيلة نزول الصاعقة على رؤوس الجميع. وبقي الأهالي عاقدين الآمال على قضائهم الحر الذي لا بد أن ينصفهم. والمفاجأة كانت في وقوف المسؤولين أمام مهزلة التعويض وقوف المتفرج.
ثم جاءت الصاعقة الثانية في ذلك الحكم القضائي الذي لا يلبي اية متطلبات ولا يحمل اية قيمة مادية أو معنوية أو إنسانية، بل كان بمثابة طي صفحة سوداء وتبييض، وغسل أيادي أشخاص ملطخة بدماء الأطفال والأبرياء، ولسببين وجيهين:
1. فقائد الطائرة الليبي قتل بالحادثة، احكموا عليه بما شئتم وحمِّلوه كل ما تريدون من أوزار، فسيبقى كل ذلك حبراً على ورق.
2. درويش الخازم المهرّب من وجه العدالة، لا علاقة له فعلياً من قريب ولا من بعيد بملكية الطائرة، ودوره كان فقط دور «معاون البوسطة». فكيف انتقلت ملكية الطائرة وبقدرة قادر من أحمد الخازم المتباهي بملايينه الى المعدم درويش الخازم معاون البوسطة؟ اقول قولي هذا وأنا مرتاح الضمير لأدخل في صلب الموضوع مصراً على عدم قيمة الحكم بناء على ما ورد ولما هو آت.
الرئيس نبيه بري أكد أثناء استقباله لنا أن أحمد الخازم تقدم منه في حسينية جويا (يوم التعزية بالضحايا) قائلاً: «ما إلنا الا الله وانت يا دولة الرئيس». ولمّا سأله عن السبب، أبرز له الخازم وثيقة قال إنها وثيقة تأمين الطائرة التي يملكها، فسأله الرئيس عن سبب طلب المساعدة ما دامت الطائرة مؤمّنة؟ إذ ما عليه إلا أن يبرزها للجان التحقيق.
ودرويش الخازم الذي ما فتئ يتبجح في كل الاماكن التي يرتادها بأنه لا يدفع الا ثمانمائة دولار راتباً شهرياً لقبطان الطائرة، ولا يشتري العجلة المستعملة باكثر من 200 دولار بدلاً من 5 آلاف دولار ثمن الجديدة حتى يؤمن لأخيه مالك الطائرة 50.000 دولار عن كل رحلة، ثم جاء ليتسلق على متن الطائرة التي نقلت الجرحى الى بيروت مدعياً أنه يملك ثمن تذكرة السفر، ولما بوشر منعه من الصعود تدخل البعض بحجة أنه قادم الى بيروت ليمثل امام لجان التحقيق. فكيف يهرب هذا المجرم في اليوم التالي جهاراً ونهاراً ومن الباب الواسع في مطار بيروت ليختفي عن الانظار منذ ذلك الحين؟ قولوا لي بربكم ما هذه الأوركسترا المفضوحة؟ وهل هناك من دلالات واضحة لهذا الفيلم السينمائي الذي أخرج بإتقان غير التعتيم على من هم وراء درويش الخازم؟
ثم أكد الرئيس الشهيد رفيق الحريري لنا، وكنا على تواصل تام معه ومع لجنة التحقيق (والذي أملك بحوزتي ملفه الكامل وقد أرسلته لي السفارة الفرنسية في كوتونو) أنه علم من مصادر موثوقة خاصة أنه أثناء إقلاع الطائرة المنكوبة لاحظ قبطان الطائرة أنها لا تنطلق بالسرعة المطلوبة التي تمكنها من التحليق، طالباً من الخازم تأخير الرحلة للتفتيش عن السبب أو إلغاء الرحلة، فما كان من هذا الأخير إلا أن اصرّ على الإقلاع قائلاً: إن البحر أمامنا وإذا وقعنا فسنقع في البحر.
هذه هي مناقبية وأخلاق ومستوى هؤلاء الاشخاص المفترض أن يكونوا مؤتمنين على أرواح الناس، سواء الخازم أم قبطان الطائرة، في كيفية التعامل مع موضوع حساس وخطير كهذا، وعلى هذا القدر من الأهمية. في العودة الى قرصنة عملية التعويض، لم يخطر ببال أحد سواء على مستوى الوطن المقيم أو الاغتراب الكادح، أن حياة المواطن اللبناني رخيصة وممتهنة الى هذا الحد من الاستهتار واللامبالاة حين يتساوى ثمن رب العائلة والكادح والمعيل لعائلته أو الشاب الذي هو في مقتبل العمر، مع ثمن وجبة طعام في موائد كبارنا ومسؤولينا، ويكون نصف ذلك المبلغ للطفل أو المفجوع الذي أعمته المصيبة ولم يتقدم بشكوى، وكأن الموضوع ليس بموضوع حق عام شغل الوطن والمجتمع بأسره، ليفاجأ ذوو الضحايا بقرصنة التعويض ومسخه، وبأن مسؤوليهم باعوهم بأبخس الأثمان، وراحوا ينتظرون بفارغ الصبر ملاذهم الأول والأخير أي القضاء، والذي جاء حكمه مخيباً لكل الآمال. وهنا من حقنا أيضاً أن نتساءل: اذا كان مسؤولونا يقرأون فهل قرأوا أن تعويض الضحية في طائرة شرم الشيخ (أغلب ركابها فرنسيون) بلغ 75 ألف دولار دفعة اولى؟ وهل قرأوا كيف أجبرت ليبيا على دفع 10 ملايين دولار لكل من ضحايا لوكربي؟
ورغم كل هذا بقي البطل الحقيقي، والمخرج والملحن واللاعب الاساسي، احمد الخازم حراً طليقاً. ورغم هول الكارثة بقي يتنقل على رؤوس الأشهاد بسيارتين، واحدة للحرس الشخصي والثانية له، ضارباً عرض الحائط بكل القيم التي تفرض على كل من يملك ذرة ضمير الخجل من النفس احتراماً لكل الأرواح التي أزهقت بسبب جشعه وتعطشه للمال الحرام.
الحاج علي الدر
(الرئيس السابق للجالية اللبنانية في كوتونو)