ما عدنا نعرف عن أيّ رفيق حريري يتكلمون (ويتكلّمن). من هو هذا الرجل الذي لا يشبه رفيق الحريري الذي شغل رئاسة الوزارة لسنوات؟ ضاع رفيق الحريري في غمرة التغطية الدعائيّة التي أدارتها أميركا وإسرائيل بعد اغتياله (هل هناك من يظنّ أنّ الأمانة العامّة في 14 آذار تمون بالفعل على الأمانة العامّة لـ14 آذار؟). حتى تمثال الحريري لا يشبهه: أنقصوا وزنه وكادوا أن يجعلوه نسخة طبق الأصل لممثّل غربي وسيم. لا، ليس هذا رفيق الحريري، لا شكلاً ولا مضموناً. أعادوا خلقه من جديد، صبّوه في حديد وكوّنوه على نسق مصالح عقيدة بوش، لا على نسق مسيرة حياة الرجل

أسعد أبو خليل*
لم يتعرّض رجل في تاريخ الشرق الأوسط لحملة ترويج دعائيّة باهظة الأثمان كما جرى لرفيق الحريري. يحلم قادة كبار أن يُبجَّلوا في الحياة أو في الممات كما جرى للمقاول القادم من السعوديّة. كان لعبد الناصر هالة ضخمة، لكنّها حقيقيّة غير مُفتعلة ـــــ لم يدفع أحد للرجال والنسوة الذين خرجوا بأثواب النوم يوم استقالة عبد الناصر في 1967 أو يوم وفاته. أنا شاهدت الناس يخرجون عفويّاً من منازلهم أو يبكون على الشرفات في هذيْن اليوميْن، وأنا سمعت هتافهم (تحاول أبواق آل سعود اليوم الثأر من عبد الناصر عبر اختلاق روايات لا يصدّقها إلا صبية آل سعود وأفخاذهم وأتباعهم. يقولون اليوم إنّ الناس دُفع بهم إلى الشوارع دفعاً. هؤلاء تعوّدوا أساليب ملوك آل سعود وأمرائهم في شراء المديح والسعي وراء الثناء المُصطنع. فعل صدّام ما فعل في السبعينيات والثمانينيات، لكن الصعود القومي ـــــ الجماهيري كان عصيّاً عليه. الخوف وحده لا يبني الشخصيّة التاريخيّة). رفيق الحريري زعيم جماهيري ـــــ لكن بعد موته فقط. لم يتنعّم بهذه الزعامة في الحياة. تحوّلت ذكرى ميلاده إلى «مناسبة وطنيّة». خطب ومقالات من يساريّين سابقين تملأ الصحف. ماذا تقول في جوني عبده الذي عايد اللبنانيّين واللبنانيّات في عيد ميلاد الحريري، وكأنّ

ذكرى وفاة الرجل تحوّلت إلى عيد جنون وطني مُتفلِّت حيث يتنافس وضعاء السياسة في التملّق
العيد يعني أحداً خارج العائلة التي ورثت مهمات العار الوطني عن آل الجميّل؟ عبده هذا قد يكون من الذين أرسلوا سيّارات مفخّخة إلى بيروت الغربيّة أثناء الحرب الأهليّة. هذا الذي حوّل بيته إلى بيت مضافة لأرييل شارون. من كان يعدّ الطعام في منزلك يا جوني عبده؟ جوني عبده هذا يتفجّع على رفيق الحريري بعد خمس سنوات من وفاته (كما تفجّع على بشير الجميل بعدما شارك في الحملة الانتخابيّة لتنصيب الجميّل ـــــ أسوأ لبناني على الإطلاق). وذكرى وفاة الرجل تحوّلت إلى عيد جنون وطني مُتفلِّت حيث يتنافس وضعاء السياسة في التملّق والتفجّع والنفاق والطأطأة. قضوا على عيد الحب من أجل تخليده، وحوّلوا يوم ميلاده إلى عيد من البكاء المتكرّر الممجوج، ثم يحدّثونك في حب الحياة وعشق الحياة، وهم عبّاد الموت والحداد والجنازات المستمرة. لم آخذ «عيد الحب» على محمل الجد، وهو مناسبة تجاريّة اخترعتها شركات صنع الشوكولا وبطاقات المعايدة هنا (وجاء بالعيد إلى بلادنا، مصطفى أمينو الذي أثبتت وثائق أميركيّة نُشرت أخيراً أنّ الاتهامات الناصريّة له لم تكن جائرة)، لكنّي اليوم أطالب بإرجاع «عيد الحب» وإطلاق سراحه من براثن أموال عائلة الحريري. بين الاحتفاء بالحب والحداد المُستمرّ، من يختار الحداد الحريري؟ تطلع نازك الحريري علينا دوريّاً برسائل حب إلى زوجها، تنشرها وسائل الإعلام بالكامل. ما لنا والحياة الخاصّة لهذه العائلة التي أثقلت كواهل الشعب اللبناني برمّته؟ الحياة الخاصة لآل الحريري باتت حياة سياسيّة في لبنان.
لا أدري إذا كنا سندرك ذات يوم مدى الإنفاق الأميركي والسعودي والحريري على إطلاق عبادة شخصيّة رفيق الحريري بعد وفاته. يكفي أن تجول وترى الصور العملاقة والشعارات. لم يكن من الممكن أن تؤدّي الحملة مفعولَها لو جرت في حياة الرجل. وللحقّ، لقد أنفق ملايين من ماله الخاص لإنشاء زعامة ولتقويض أسس زعامات مُنافسة. لكنّه لم يتمتّع بالهالة التي أحاطت زعامته بعد اغتياله. الإرادة الدوليّة فعلت فعلها. وجورج بوش، الذي أهانه في أوّل لقاء عندما ذهب يستجدي دعماً أميركيّاً لواحدة من «باريسات» خططه الاقتصاديّة، عاد وتفجّع عليه بعد اغتياله وكاد أن يعلن مناسبة الوفاة سبباً لإعلان الحرب على سوريا (كان ذلك عندما كان مجلس الأمن يطالب لجنة التحقيق الدوليّة بموافاته دوريّاً بتقارير عن مدى التعاون السوري مع المحكمة. نتذكّر ذلك ونلاحظ أنّ مجلس الأمن لم يطالب حتى بالتحقيق مع شخص واحد في إسرائيل). أصبحت أسطورة الحريري ضرورة من ضرورات عقيدة بوش: عوّل الأخير عليها كي ينقذ نفسه من شؤم حربه ضد العراق. وعائلة الحريري أرادت أن تخلّد مال الحريري بماله، وأن تستدرج الدموع بالمال. وما لا تستطيع أن تشتريه بالمال تبتاعه بالتأجيج والتحريض المذهبي (لا يجب إقحام اسم محمد علي الجوزو في هذا الصدد لأنّ القانون اللبناني يفرض احترام «المقامات» الدينيّة). السعوديّة كانت تنفّذ الأوامر الأميركيّة بحذافيرها. لم يكن يعنيها أمر الحريري، حيّاً أو ميتاً. العواطف ليست من شيم تلك العائلة التي نكبت التاريخ العربي المُعاصر، والتي هيّأت لنصر إسرائيل عام 1967 عبر إشعال حرب اليمن بمساعدة إسرائيليّة (نشرتُ على مدوّنتي نصّاً من دراسة أميركيّة رسميّة غير سريّة، لكنّها غير منشورة، تثبت مدّ الجانب الملكي ـــــ السعودي في حرب اليمن بأسلحة إسرائيليّة ـــــ انظر:
http://angryarab.blogspot.com/2010/08/origins ـــــ of ـــــ saudi ـــــ israeli ـــــ alliance.html).
رفيق الحريري تغيّر بعد وفاته. أظنّهم اليوم يتحدّثون عن رجل آخر. يقولون إنّه كان قوميّاً عربيّاً. يتحدّثون عن أيام «نضاله» في حركة القوميّين العرب. لا يذكره أي من المناضلين العتاق في الحركة. بلى، هناك من تذكّر أنّه كان يساعد في حمل «الهتّيفة» على أكتافه في بعض التظاهرات الحماسيّة. لكن رفيق الحريري الحيّ لم يكن يتحدّث عن نضاله في حركة القوميّين العرب بهذه الصورة، أو عن الناصريّة. على العكس، كان صريحاً أنّه عندما وطئ أرض السعوديّة غيّر مواقفه السابقة ونبذها كليّاً. «اعترف» بأنّه كان مخطئاً عندما ساند عبد الناصر ضد آل سعود. كان منسجماً مع نفسه عندما تحدّث عن سنوات وعقود من طاعته لآل سعود وسياساتهم. أيريدون أن يجعلوه قوميّاً وناصريّاً بالقوّة؟ ممكن أن يكون قد مرّ بحقبة ناصريّة في سنوات المراهقة (روى لي شخص من أقرب مستشاري الحريري أنّ هناك من أشار على سعد الحريري بضرورة ذكر جمال عبد الناصر في حملة انتخابات الشمال عام 2005، فتعجّب حضرته وسأل: وما علاقة عبد الناصر؟ عند سعد الحريري (وأبيه) الاسم هو عبد العزيز لا عبد الناصر).
رفيق الحريري كان في حياته عرّاباً لعدد من ميليشيات الحرب: من الحزب التقدّمي إلى القوّات اللبنانيّة إلى غيرها. وكان، بمشاركة من عبد الحليم خدّام، عرّاباً وراعياً لإيلي حبيقة واحتضنه في قصره في جنيف. لكن رفيق الحريري الميت أصبح بقدرة قادر عدوّاً للميليشيات (إلا إذا عنوا أنّه عدوّ لكل فصيل مقاوم لإسرائيل) وشخصاً لم تتلوّث يداه بدم القتال الأهلي. رفيق الحريري كان في حياته مستفيداً من الحرب ومنفّذاً لإرادة سعوديّة ـــــ أميركيّة ـــــ سوريّة، وكانت إطلالته الأولى معاوناً لبندر بن سلطان ـــــ واحد من أسوأ أمراء آل سعود والمنافسة في السوء حامية في تلك العائلة. الثلاثي السعودي ـــــ الأميركي ـــــ السوري فرضه من دون أن يكون أهل بلده قد سمعوا به أو بماله الوفير.
يقولون اليوم إنّ رفيق الحريري كان مساهماً في النضال الفلسطيني، ناسين (وناسيات حتى نشير إلى تلك الشهادة غير الصحيحة التي روتها ليلى خالد على شاشة الحريري وأساءت إليها وإلى نضالها العريق) أنّه غادر إلى السعوديّة في سن مُبكّرة قبل أن ينطلق النضال الفلسطيني. ثم، لا ننسى أنّ الرجل غادر في تلك السن المبكّرة إلى السعوديّة واعتنق، مُبكّراً أيضاً، العقيدة السعوديّة برمّتها. لم يحد عن عقيدة المال وعن عقيدة خدمة آل سعود حتى في سنوات خصامهم مع عبد الناصر ومع اليسار العربي. أما في الممات، فتحوّلت مشاركته في التظاهرات سنوات المراهقة نضالاً ما بعده نضال. رفيق الحريري الحيّ كان متحالفاً مع الدحلانيّة في فلسطين، وكان على صلة وثيقة بمحمود عباس وشلّة عدم الأنس في رام الله.
يقولون اليوم إنّ الحريري كان «أبا الفقير»، وهو تعبير استُقي من رجال سياسة تمتّعوا باللقب من قبل، مثل عبد الله الحاج أو سامي الصلح. هذا الذي لم يرتح إلا في عشرة المجتمع البورجوازي السمج والذي جهد كي يُقبَل في صفوفه؟ أبو الفقير؟ هذا الذي جلب بافاروتي على متن طائرته الخاصّة ليثبت للبورجوازيّة اللبنانيّة أنّه قادر على قولبة أذواقه لتتناسب مع ضرورات الصعود الطبقي، أبو الفقير؟ هذا الذي لم ترحم سياساته الماليّة لا الطبقة الفقيرة ولا الطبقة المتوسّطة، أبو الفقير؟ هذا الذي بنى اقتصاد ما بعد الحرب على السياحة (العاديّة وسياحة الدعارة) للترفيه عن أثرياء النفط، أبو الفقير؟ هذا الذي دعا الفقير إلى الاكتفاء بحذاء قديم وإصلاحه بدل الطمع بحذاء جديد، أبو الفقير؟ هذا الذي كان يعتبر وصفات البنك الدولي وصندوق النقد من المُنزلات المقدّسة، أبو الفقير؟ هذا الذي كان لا يفوّت مناسبة من أجل تذكير السامع بثروته والذي كان يعرض قوائم متلقّي دفوعاته من السياسيّين، أبو الفقير؟ هذا الذي لم يتورّع عن التذمّر من أكواخ الفقراء في الأوزاعي، أبو الفقير؟ هذا الذي سكن القصور، وعلّم طبقة الأثرياء في لبنان الابتذال والفجور بعرض الثروات، أبو الفقير؟ هذا الذي كان يمشي في قوافل ملوكيّة وتعلّم أساليبه من أسياده في الرياض، أبو الفقير؟
ثم يقولون اليوم إنّه كان بانياً للدولة المدنيّة. الدولة المدنيّة؟ وهو الذي بنى دولة ظلّ حريريّة تعشش في كل إدارة للدولة ولا تأتمر إلا بأمره؟ هو الذي كان يتجاوز القوانين والدستور والأعراف ليسرّب ما يريد من قرارات وإجراءات؟ ألم يكن طلبه الأوّل من حافظ الأسد الحصول على سلطات استثنائيّة لا يتمتّع بها إلا أمثال صدّام حسين وكيم جونغ إيل؟ ماذا تقول في مدنيّة رئيس حكومة كان يدفع رشوة شهريّة لرئيس الجمهوريّة؟ الفساد كان موجوداً قبل وُلوجه إلى السلطة، لكنّه اكتسب بعداً آخر بعدما تبوّأ السلطة. مستوى الفساد الحريري لم يشهده لبنان من قبل، لا من حيث المبالغ، ولا من حيث نطاقه.
والأنكى أنهم اخترعوا له صفة الديموقراطيّة. ديموقراطيّة؟ وهو الذي كان يتمثّل ليل نهار بحكم آل سعود؟ ديموقراطيّة، وهو الذي كان يطوّع الدستور بإرادة راعيه في النظام السوري والسعودي؟ ديموقراطيّة، وهو الذي ساوى بين الثروة وأصول الانتخابات؟ ديموقراطيّة وقد آمن بصوابيّة دفن الخصوم بالإنفاق المالي المُضاد؟ ألم يكن هو رئيس الحكومة في معظم تلك الحقبة غير الديموقراطيّة التي يشكون منها اليوم؟ البعض يزعم أنّه كان مغلوباً على أمره. مغلوب على أمره لعشر سنين؟ عشر سنين؟ أيمزحون؟ ولماذا لم يستقل إذا كان معترضاً؟ ثم، إذا كان مغلوباً على أمره، فماذا يعني هذا؟ أنّه كان جباناً وضعيفاً؟ يقولون إنّه كان ينتقد النظام السوري همساً في حديقة قصره في قريطم. بالهمس؟ رجل دولة يهمس بنيّة تحرير وطنه؟ هل هذا كاريكاتور لسيرة الرجل، أم نكتة سمجة من اختلاق باسم السبع، الذي تشرئب أعناق ناس الضاحية نحوه كلّما أطلّ على لبنان؟
ماذا تقول في محاربته للإعلام؟ يقولون إنه حمى سمير قصير، مع أنه لم يفعل شيئاً باستثناء دعوة واحدة له. ألم يقضِ على الإعلام الوطني؟ ألم يشترِ كل وسائل الإعلام في لبنان، وألم يعاقبها بالتقتير المالي أو الحرم المالي عندما كانت تنشر ما لا يعجبه؟ ألم يستعن بأجهزة الأمن من أجل منع أي نقد للسعوديّة في وسائل الإعلام؟ ألم يكن مسؤولاً عندما كانت وسائل الإعلام تُقفل؟ مغلوب على أمره؟ ولعشر سنين بالتمام والكمال؟ الذين يطلقون الأكاذيب عنه، هل هم يصدّقونها؟ هل هم يضحكون في سرّهم على هزال مزاعمهم؟ كيف أصبح الإعلام الرسمي والحريري في المملكة الحريريّة؟ أليس شبيهاً بإعلام صدّام وإعلام عبادة الشخصيّة؟ هل يجرؤ أحدهم في الإعلام المستفيد من مال الحريري على إصدار نقد ولو ملطّفاً لأي مشيخة أو مملكة أو سلطنة نفطيّة؟ هل يجرؤ أحدهم على المجاهرة بما يدور من أحاديث حول العالم عن جهل رئيس حكومة لبنان، الذي لا يهنأ له بال إلا في السفر للقاء «دوق يورك» في بريطانيا؟ و«دوق يورك» لا سلطة له. هل يجرؤ أحدهم (أو في مؤسّسة سمير قصير) على الاعتراض المُلطّف على حكم بالجلد العلني ضد صحافي سعودي لأنّه انتقد الفساد في وزارة؟
واليوم يتجاسرون على ابتداع صفة الكرامة والعزّة عنه. كرامة؟ وهو الذي كان يهرع لأي استدعاء من ضابط استخبارات سوري؟ كرامة؟ وهو الذي كان يقبّل اليد والكتف من ملوك آل سعود وأمرائهم؟ كرامة؟ وهو الذي كان يستجدي تدخّلات خارجيّة لمنع الانتقاد الداخلي له؟ كرامة؟ وهو الذي كان يعترف بأنه يصوّت بناء على تعليمات وأوامر من النظام السوري؟

كيف يتحدثون عن وطنيّة الحريري وكان يريد تنصيب جوني عبده في رئاسة الجمهورية؟
ويطلقون صفة الوطنيّة عليه. الوطنيّة؟ وهو الذي لم يجد ما يحارب به سليم الحصّ إلا التلميح المذهبي الرخيص في نشرة «المستقبل» فقط لأنه لم يطق الابتعاد ولو لسنتيْن عن كرسي رئاسة الحكومة؟ الوطنيّة؟ لماذا؟ لأنه اعتنق العقيدة الكتائبيّة وطعّمها بالطائفية والمذهبيّة الإسلاميّة خدمة لمصالحه السياسيّة؟ الوطنيّة؟ وهو الذي كان خادماً ووسيطاً مطيعاً لأمين الجميّل في سنوات حكمه الظالمة والمظلمة؟ الوطنيّة؟ رجل استعان بفريق مستشارين ممن كانوا من فريق أمين الجميّل في حقبة 17 أيّار؟ ماذا تقول عن وطنيّة من كان يودّ أن يُنصّب جوني عبده في رئاسة الجمهوريّة؟
حتى في موضوع المقاومة، اختلقوا له سيرة من كان يؤازر المقاومة بمناسبة وغير مناسبة. وقد ساهم نصر الله للأسف في تصنيع صورة الحريري «المقاوم». وعندما فرضت المقاومة «تفاهم نيسان» أصبح هذا إنجازاً للحريري. وهناك من لم يتورّع عن القول إن رفيق الحريري هو الذي «شرعن» المقاومة، وكأن المقاومة ـــــ أي مقاومة ـــــ تحتاج إلى شرعنة أو رعاية أو مباركة أو إلى «كنف الدولة» ـــــ على وصف نسيب لحّود. رفيق الحريري باشر حكمه بمحاولة القضاء على المقاومة فيما كانت أرضه ـــــ وليس فقط مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وقرية الغجر والقرى السبع ـــــ ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي. رفيق الحريري لم يكن له أي علاقة بمقاومة إسرائيل: هو الذي كان يسعى طيلة سنوات حكمة لإحلال السلام مع إسرائيل (صرّح أحمد الحريري، بالمكنون عندما عبّر عن رغبته ورغبة «اللجنة الخماسيّة» المنحلّة، بالسلام والوئام مع إسرائيل. يظنّ الجيل الثاني من آل الحريري، مثل الجيل الثالث من آل الجميّل، أن 17 أيّار هو الحلّ المنشود للبنان). رفيق الحريري نُكب باغتيال إسحق رابين كما يظهر من كتاب جورج بكاسيني عنه، كما أنه كان يعدّ الخطط السريّة للقضاء على حزب الله كما يظهر من كتاب أنطوان سعد عن البطريرك صفير.
رفيق الحريري رجلان: رجل عاش ومات، وآخر صُنِّع في مماته ولا يمتُّ بصلة إلى الرجل الذي عاش والذي عاصره اللبنانيّون. رفيق الحريري الحقيقي كان جزءاً من مشروع بعنوان مُستقى من 17 أيّار. أي أن رفيق الحريري الحقيقي كان شفيق وزّان آخر، وبمال وفير. فليسقط تمثال «السان جورج» ولنرَ صوراً عملاقة لرفيق وهو يهدي مفتاح بيروت إلى غازي كنعان، أو وهو ينحني ليقبّل كتف الملك فهد وهو جالس. أما صنّاعو شخصيّة رفيق الحريري الأسطوريّة، فيمكنهم أن يشغلوا بصناعة كذبة أخرى عملاقة كي تدخل رقماً قياسياً آخر في مهزلة «غينيس» التي تشغل اللبنانيّين واللبنانيّات.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)



جبران مرّة أخرى



نشرت «الأخبار» ردّين متوالييْن على مقالتي عن جبران («جبران خليل جبران: أساطير التفوّق اللبناني»، الأخبار 16/10/ 2010): واحدة غارقة في الإسفاف لطارق الشدياق («ردّاً على أسعد أبو خليل: الشوفينيّة المضادّة» عدد السبت ٢٣ تشرين الأول ٢٠١٠ )، وأخرى مهذّبة للزميل كمال ديب («ردّاً على أسعد أبو خليل: عن جبران ولبنانيّته ونيتشه» عدد الاربعاء ٢٧ تشرين الأول ٢٠١٠). أقول:
أولاً، طارق الشدياق يعترف بضحالة معرفته بجبران. كان يجب أن يتوقّف عند هذه الجملة ويترك النقاش في الموضوع لغيره.
ثانياً، يقول إن ولاءه لنوّاب بشرّي يعود لفضلهم في دعوة كارلوس سليم إلى لبنان. أي أنّ الشوق لدنانير سليم هو سبب حماسته لنوّاب القوّات اللبنانيّة (وقد أبرز موقع القوّات ردّه عليّ). ويضيف إنّه يودّ أن يتوئِم متحف جبران بمتحف كارلوس سليم بالمكسيك. ما علاقة جبران بكارلوس سليم، يا طارق الشدياق؟ نوّرنا أرجوك. هل هناك جامع غير الطمع بدنانير كارلوس سليم التي ستأتي إلى لبنان عندما يأتي غودو إلى بشرّي؟
ثالثاً، يندهش الشدياق لأنّني اكتشفت جبران في سن مبكّرة، ولديّ صور مع ميخائيل نعيمة في سن مبكّرة أيضاً. ما ذنبي إذا كان الشدياق قد اكتشف القراءة في سن متأخّرة جداً؟
رابعاً، يتحدّث الشدياق عن شيوعيتي السابقة وكأنّني أخجل بها، مع أنني أتحدّث بفخر عن شيوعيّتي الماضية وفوضويّتي الحاليّة. لكنني أوكّد له أنّ عبادة دنانير كارلوس سليم لم تكن يوماً من ضمن عقائدي.
خامساً، في موضوع نسب بيع كتب جبران (وضرورة إدخالها في كتاب «غينيس» مع صحن الحمّص العملاق)، يقول الشدياق بالحرف: «دار النشر الوحيدة لكتب جبران هناك ـــــ راندوم هاوس لصاحبها ألفرد كنوبف...» هذا هو مصدر الشدياق عن مبيع كتب جبران. أقول له: ألفرد كنوبف، يا من ينتظر دنانير كارلوس سليم، مات وشبع موتاً، و«راندوم هاوس» هي التي تملك دار نشر «كنوبف» لا العكس. يفترض أن تكون عليماً بأمر دار نشر كتب جبران بالإنكليزيّة. لكن معلوماتك عن جبران ضحلة، يا رئيس لجنة جبران الوطنيّة.
سادساً، يستعين الشدياق بمسيحيّة أمّ جبران ليثبت مسيحيّة الرجل وورعه. ما علاقة ورع جدّتي وتُقاها، مثلاً، بأفكاري اليوم؟ هل أنا مُلزم بأفكارها؟ هل اكتشف الشدياق قانوناً جديداً للسببيّة؟
سابعاً، أقول للزميل كمال ديب، لن أناقش متى قرأ جبران كتاب نيتشه. أقول إنّ كتاب «النبي» هو على الأرجح تقليد لتقليد آخر لكتاب «هكذا تكلّم زرادشت» («كتاب خالد» ربّما؟). لكن الأهم أنّ لا أثر البتّة لفلسفة نيتشه في كتابات جبران. أي أنّه إما لم يقرأ الكتاب أو قرأه ولم يفهمْه.
ثامناً، أتمسّك بمقولتي إنّ كتابات جبران لا ترتقي إلى مصاف الأدب، باللغة الإنكليزيّة، وإنّه غير ذي موضوع أكاديميّاً. صحيح أنّ هناك مركزاً (بأستاذ واحد) في جامعة ماريلاند يتخصّص بشؤون جبران، لكن الأستاذ هناك لبناني، والمؤسّس لبناني، والداعم الأساسي أستاذ لبناني راحل (إدوار عازار، وكان قريباً من الأخويْن الجميّل). أي أن الطبخة لبنانيّة في أساسها.
أسعد...

تم تعديل هذا المقال عن نسخته الورقية في الأحد ٧ تشرين الثاني ٢٠١٠