احتلت حضرموت لقرونٍ خلت موقعاً في الوجدان الشعبي التاريخي باعتبارها حاضنة المقر الأبدي للارواح الشريرة، لكنها فجأةً في غفلةٍ من العالم تخطّت الاسطورة لتحتل موقعاً أكثر أهمية على خريطة الصراع الدائر على امتداد المنطقة. فكبرى المحافظات التي تمثل أرضها ثلث مساحة اليمن تشهدُ اليوم – في غمرة النشوة العربية بقيام تحالف يوحد جيوش الامة - غزواً «قاعدياً» مريباً يفتح الطريق أمام ميليشيات القبائل المسيرة من الخارج للسيطرة على المحافظة من بوابة عاصمتها المكلا، ورميها في قبضة «الجيران» بذريعة تحريرها من العناصر الارهابيين.
ليست أحداثُ حضرموت وليدةَ ساعةٍ أو نتاج أزمةٍ عابرةٍ وعاصفةََ حزمٍ، بل حصيلةُ سياقٍ تاريخيٍ طويل يغفلُ عنه الكثيرون من متابعي الشأن اليمني، فمعاهدة عام 1934 التي تنازل بموجبها اليمن – مؤقتاً - عن محافظاتٍ ثلاث لمصلحة العربية السعودية فتحت الباب أمام الأخيرة لوضع حضرموت في رأس قائمة أولوياتها، اذ ان موقعها الاستراتيجي المطل على بحر العرب جعل منها مطمعاً دائماً يُغري السعودية بمنفذٍ بحريٍ الى المحيط الهندي دون المرور بمضيقي باب المندب أو هرمز. ولذلك رُسمت خططُ لجعل حضرموت، ومحافظة المهرة المجاورة، اقليماً مستقلاً ذا طبيعةٍ بدوية صحراوية تنسجم مع بيئة الخليج العربي، وتتيحُ لاحقاً ضمه الى مجلس التعاون الخليجي، أو ضمه كاملا الى الاراضي السعودية اذا وُضعت معاهدة 1934 على طاولة البحث مجدداً (وهو ما اثبتته وثائق «ويكيليكس» الاخيرة).
من هنا جعلت الادارة السعودية من حضرموت ملعباً لها واستفادت من الحضارمة في العديد من مشاريعها الديموغرافية. فمن جهة استعملتهم في تغيير التركيبة السكانية والغاء الهوية السياسية في الحجاز عبر تجنيس الآلاف منهم، الى جانب الاقليات القوقازية والتركية، سعياً لفرض السيطرة النجدية المطلقة على الحجاز عقب زوال الهاشميين مطلع القرن الماضي. ومن جهة أخرى وضعتهم في سياق مشروع التعديل الديموغرافي للحدود اليمنية السعودية الذي بدأ عام 1960 إبّان حكم الشيوعيين لليمن الجنوبي، حيثُ جرى استقدام القبائل الحضرمية (ابناء يافع - بني حموم - الغراب - غيل - بني أمين) وقبائل العمق تحت عنوان «قبائل نازحة» بالتعاون مع مشايخ قبليين ذوي نفوذ في الجنوب، ليجري تجنيسهم، أُسوةً بالآلاف من بدو العراق والأردن وبادية الشام الذين استُقدموا وأُسكنوا على الحدود.
يأتي ذلك لتحقيق هدفي الادارة السعودية الاساسيين، الأولُ فرضُ تغييرٍ ديموغرافيٍ في محافظة نجران المحتلة على الضفة السعودية من الحدود، ومزجه بثقافة «جديدة» تجعل أهل نجران أقليةً في موطنهم يحصلون على حقوقٍ لا تُقارن بما يناله الغرباء من وحداتٍ سكنيةٍ مؤمنة بكافة الخدمات الحكومية من مدارس ومستشفيات ومساجد واسواق ومراكز خدمية أخرى. والثاني فرض الحلم السعودي القديم بجعل شرقِ اليمن كياناً ذيلياً ملحقاً عبر جعل الغالبية السكانية الحضرمية من حاملي الجنسية السعودية المتمتعين بحقوق المواطنة السعودية تمهيداً لفرض الارادة السعودية في أي استفتاءٍ لتقرير المصير على المدى المتوسط أو البعيد.
قد يبدو السيناريو معقداً تعترضه كثير من العقبات، لكن أحداث نيسان 2015 في المكلا، والدعم المطلق الذي يناله انفصاليو الجنوب اليمني من التحالف، يُثبتان بما لا يقبل الشك أن ثمةَ مشروعاً يجري على قدمٍ وساق لتفتيت اليمن من بوابته الشرقية، وأن كلّ ما استُبعد من خيارات التقسيم سابقاً باتَ حاضراً اليوم وبقوةً أكثر من أي وقتٍ مضى، بل وبغطاءٍ شعبي أحياناً!
* باحث لبناني