خالد صاغيةحاجز مفاجئ للدرك، ثمّ طلب هادئ بالركون إلى اليمين. يسأل الدركيّ عن أوراق السيّارة ورخصة السوق، قبل أن يقرّر بتهذيب شديد أنّي تجاوزت السرعة المسموح بها، وقد صوّر الرادار ذلك. دركيّ آخر يحرّر محضر الضبط، يطلب منّي التوقيع، يردّ أوراق السيّارة ويحتفظ برخصة السوق، ثمّ يبلغني أنّ عليّ التوجّه إلى مركز الطيّونة خلال عشرة أيّام لتسديد 50 ألف ليرة واسترداد الرخصة.
بدوت أثناء كلّ ذلك مصاباً بدهشة تامّة. فلم أسأل عن الإشارة التي تحدّد السرعة، ولم أطلب إثباتاً لا يملكونه على أنّي تجاوزتُها، ولم أفتح موضوع إشارات السير المتوقّفة عن العمل منذ أشهر. كنتُ في الواقع سعيداً وأنا أوقّع على المحضر.
ربّما كانت هذه السعادة نتيجة فقدان أمل معظم اللبنانيين بملاقاة وجه الدولة في وضح النهار، فإذا بها تواجهني بعد منتصف الليل. فرئيس الحكومة يخترع أعذاراً كي لا تُعقد جلسة لمجلس الوزراء، ورئيس الجمهوريّة يدعو إلى جلسة حوار قد لا يحضرها أحد، وسيناريوهات انهيار البلد تنهال علينا من كلّ حدب وصوب، فضلاً عن وزراء يجاهرون بجهلهم أمور وزاراتهم، وملفّات فساد ورشى تبدأ صغيرة ثمّ لا نلبث أن نكتشف أنّها تكاد تطال الجمهوريّة برمّتها. يحدث ذلك فيما السياسة معلّقة تماماً، تكاد تنحصر في برامج صباحيّة لم تعد تسلّي أحداً.
وبرغم كلّ ذلك، ثمّة دركيّان مهتمّان بتخطّي السرعة التي لا أعرف منذ متى باتت محدّدة برقم معيّن في بلاد كلّ شيء فيها مباح. وددتُ أن أصافح ذاك الدركيّ. أن أسأله إن كان يعرف زملاء له في القطاع العام يقودون باصات حديثة للدولة يمكنني أن أستقلّها. وددتُ أن أسأله عن حال الجامعة اللبنانيّة. أن يدلّني على عنوان المستشفيات الحكوميّة الرائدة. أن يرشدني إلى مهندسين استخدمتهم الدولة للإشراف على بناء مساكن شعبيّة.
تخيّلت لو أنّ ذاك الدركيّ يعرف حقاً زملاء له في تلك الميادين، ربّما خفّت قليلاً مهزلة أن تكون لبنانيّاً اليوم. فمن دون شرطيّ السير وأستاذ التعليم الرسمي وسائق النقل العام والطبابة المجانية والشواطئ الشعبية، كيف يمكن اللبنانيّ أن يكفّ عن كونه شيعياً أو سنّياً أو مسيحياً أو درزياً؟ كيف يمكن اللبناني أن يكفّ عن كونه سعودياً أو سورياً أو إيرانياً أو أميركياً أو فرنسياً؟ كيف يمكن اللبناني أن يكفّ عن كونه من القرية الفلانيّة والحيّ الفلاني والعائلة الفلانيّة؟
ربّما كانت الصدفة وحدها هي التي جعلت ذاك الدركي يقف على جسر يدعى «جسر فؤاد شهاب».