من يتابع السجال الدائر اليوم بين «القوات اللبنانية» من جهة والشيخ بيار الضاهر من جهة ثانية حول ملكية LBC، لا يمكن أن يغيب عن ذهنه طرف ثالث يعدّ نفسه معنياً أيضاً بالمحطة التي كوّنت ذاكرته التلفزيونية. طرف يستمع للمرة الأولى إلى قصة «حقيقية» للمحطة تناقض القصة التي يحفظها عنها
مهى زراقط *
«كلّ الأعمار محطات، وأنت محطة كلّ العمر». هذه العبارة وردت في ختام «كليب» ترويجي أعدّته «المؤسسة اللبنانية للإرسال ـــــ LBC» احتفالاً بعيدها الثامن عشر. كان الشعار يومها «عمرهم من عمرها». تذكّر هذا «الكليب» أساسي لدى الحديث عن LBC اليوم، وعن مكانها في ذاكرة اللبنانيين. أساسي لأنه يكشف عن وعي المحطة لموقعها ولدورها الذي أدّته، قصداً أو عن غير قصد، لتنجح في الدخول إلى كلّ البيوت اللبنانية أولاً، والعربية لاحقاً.
من البديهي الاعتقاد أن المحطة عندما وُلدت عام 1985، لم يكن في نيّتها التوجه إلى جمهور وُلد معها. بل هي كانت تخوض تحدّي دخول بيوت لبنانيين يعرفون الكثير عنها وعن خلفياتها، بما يتيح لهم اتخاذ موقف مسبَق منها: هذه محطة «القوات اللبنانية» التي تمثّل طرفاً في حرب أهلية كانت لا تزال دائرة. تحدّ صعب خاضته المحطة، لكي تقنع لبنانيين آخرين يتعرضون لقصف «القوات» أو اعتداءات عناصرها المسلحة، بأن يشاهدوها، فكيف بأن يحبّوها؟ وكانت المحطة أمام خيارين: إما أن تغيّر هذا الموقف فتنتشر، وإما أن تعزّزه فتنغلق على ذاتها وجمهورها.
بعد 18 عاماً، كانت LBC تدرك أنها ربحت التحدّي الصعب. خرقت الحواجز النفسية واستطاعت، مستفيدة من خصائص التلفزيون وتقنياته، أن تستقطب جمهوراً واسعاً من مختلف الانتماءات والشرائح اللبنانية، بالإضافة إلى تربية جمهور جديد، كبر معها وصنع ذاكرته التلفزيونية من برامجها، كليباتها، نجومها. تماماً كما كبر الجيل الذي سبقه على برامج «تلفزيون لبنان».
وانطلاقاً من هذا النجاح، توجهت LBC إلى جمهورها الشاب في عيدها الثامن عشر بشعار «عمرهم من عمرها». وسمعنا الشباب الذين شاركوا في «الكليب» يجعلون من هذه المحطة مثالهم الأعلى. ترفض الصبية خطاب العجوز الذي كان يحبطها مستشهداً بتجربته الفاشلة. تقول له: «نحن من جيل LBC. هي حلمت وطارت وشوف وين صارت. رح نعمل مثلها نختصر الزمن ونسبقو».
يمكننا أن نتخيّل كيف كان هؤلاء الشباب أطفالاً. لا يدرسون إلا إذا هُدّدوا بحرمانهم من مشاهدة «صاحبتك ليليان» و«افتح يا سمسم»، ولا ينامون قبل أن يشاهدوا «بيت خالتي». ولا يستقبلون السنة الجديدة إلا مع النجوم الذين تنجح LBC في استضافتهم: مطربون ومقلّدون، نقل مباشر من احتفالات في أماكن مختلفة، تقارير من الاستديو عن أخطاء ارتكبها المذيعون. وفي مرحلة ثانية السهرات الحالمة مع بيتر خوري.
الأكبر منهم سناً من محبّي الرياضة وجدوا فيها ضالتهم، تنقل لهم عبر صحنها اللاقط مباريات كرة القدم مباشرة بالصورة الأجمل والأنقى، مقارنة مع صورة تلفزيون لبنان (مونديال 1986 على سبيل المثال). حتى الحذرون منها سياسياً، وقعوا فيها على مقابلات غير متوقعة مع شخصيات «من الضفة الأخرى» (الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، السيد محمد حسين فضل الله، ...). البرامج الاجتماعية كانت حاضرة (الشاطر يحكي)، كذلك برامج المسابقات (المميّزون) والمواهب الجديدة (استديون الفن)، والمنوّعات على اختلافها بقيادة المخرج سيمون أسمر، ولا ننسى طبعاً القدير رياض شرارة في «الأول ع LBC» الذي دخل إلى مناطق لبنانية مختلفة مع انتهاء الحرب وإزالة «الحدود» بين المناطق، كلّ هذا يضاف إلى المسلسلات والأفلام الأميركية الجديدة، إلخ.
كان ذلك في البدايات، واستمرّت المحطة في نهجها ذلك بعد توقيع اتفاق الطائف، لاحقة بالتطورات المتسارعة التي شهدتها صناعة التلفزيون، فقدّمت أخيراً «تلفزيون الواقع» وحصدت نسبة كبيرة من المشاهدين والأرباح، بالإضافة إلى نجاحها في المحافظة على «موضوعية» نسبية في نشراتها الأخبارية باستثناء محطات معينة ذات حساسية مسيحية، لم تكن المحطة خلالها تتوانى عن دورها في خوض المعركة وخصوصاً في ظلّ المنافسة التي بدأت تشهدها من محطة MTV التي قرّرت خوض السياسة بعد سنوات من اكتفائها بصيغة التلفزيون التجاري. ويبقى «كلام الناس»، الذي ولد في محطة C33 (ابنة LBC)، العلامة الفارقة في برامج الحوار السياسي مع ما له وما عليه.
اللبنانيون بين روايتين: واحدة قدّمتها LBC عن نفسها طيلة 26 عاماً، وثانية رديفة تحطّم الأولى
يمكن الاستفاضة كثيراً في تحليل البرمجة التي اعتمدتها LBC، والتقنيات التي استخدمتها، وهو أمر يستحق الجهد لأنه يؤرّخ لمرحلة أساسية من العمل التلفزيوني في لبنان. فنحن نحكي عن المحطة الخاصة الأولى التي زاحمت بطريقة غير شرعية المحطة الرسمية (تلفزيون لبنان) وساهمت كثيراً في الحدّ من موارده المالية حيناً، والتسبّب له بخسائر مالية أحياناً أخرى. إلا أن ما يهمّنا في معرض متابعة السجال الدائر حالياً بين «القوات اللبنانية» ورئيس مجلس إدارة المحطة بيار الضاهر، حول ملكية LBC، أمر آخر، يتعلق بالقصة التي يعرفها اللبنانيون عن LBC والقصة الأخرى التي يحكيها طرفا النزاع اليوم.
ومن المفيد القول إن المحرّض الأساسي على مقاربة الموضوع من هذه الخلفية، إصرار كلّ من الطرفين على احتكار «الإبداع» الذي أوصل LBC إلى ما هي عليه اليوم، لصالحه. يطلّ بيار الضاهر في حلقة خاصة من «كلام الناس» في 21 تشرين الأول الفائت ليقول للإعلامي مارسيل غانم تعليقاً على مشاهد متفرّقة من كليبات ترويجية للمحطة: «كيف يمكنك أن تصدّق أن القوات (الميليشيا وأكياس الرمل) يمكنها أن تأتي بهذا الإبداع؟». فيردّ القواتيون من على موقعهم الإلكتروني بكليب يحمل عنوان «نحن اللي اخترعنا الإبداع»، وفيه صور عن تنظيمهم لاحتفال قواتي في البيال، وأخرى للضاهر بثياب عسكرية، ما يعني أنه أيضاً خريج ميليشيا وأكياس رمل.
إنه سجال نادر. قد نشهد مثله في مؤسسات أخرى. موظفون يخرجون من مؤسسة فـ«يشوّهونها» انطلاقاً مما يعرفونه عن خباياها. لكننا قليلاً ما نشهد مثله في وسيلة إعلامية «تحتكر الإبداع» التلفزيوني. لا يمكن «مبدعين» أن يحاربوا بعضهم بسلاح يفترض أن يكونوا هم أكثر من يدرك مخاطره على المؤسسة التي يتقاتلان لاستعادتها: سلاح القصة والقصة المضادة (narration et contre narration). سجال يمكن وصفه بـ«غلطة العمر»، التي ترتكبها «محطة العمر» بحق جيلها، وأجيال أخرى أحبّتها.
تعود بدايات السجال إلى تموز عام 2005، مع خروج رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع من السجن. سجال بقي خفياً، إلا في حالات استثنائية كانت تنفجر فيها الأمور مثل إلغاء مقابلة مع جعجع ضمن برنامج «كلام الناس»، استقالة الإعلامية مي شدياق على الهواء، أو المؤتمر الصحافي لمراسلة الأخبار دنيز رحمة فخري وزملائها بعد فصلهم من المحطة. إلا أنها كانت سجالات من النوع الذي يمكن المشاهدين فهمه ووضعه في حجمه «صراع على الملكية»، «خلافات بين أصحاب العمل والموظفين»، وهو ما يحصل عادة في معظم المؤسسات، وقد تعرّضت له مؤسسات إعلامية مختلفة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. منذ ذلك التاريخ، بدأت تتكشف نتائج المحاصصة الطائفية والسياسية التي حصلت مع إقرار قانون الإعلام المرئي والمسموع، وسلبياتها على المؤسسات كما على الصحافيين.
الأزمة كانت عامة إذاً، إلا أن المفاجئ والمختلف بالنسبة لجمهور LBC كان في الإطلالات التلفزيونية الأخيرة لكلّ من الضاهر على LBC، النائب القواتي جورج عدوان على MTV، وسمير جعجع على «العربية»، بالإضافة إلى ما يبثه موقع «القوات اللبنانية» الإلكتروني. كلّ ما ورد في هذه المقابلات وما يزال منشوراً على موقع القوات الإلكتروني، يعدّ من الأمور التي تجعل الكثير من اللبنانيين يتساءلون عن حجم التضليل الذي تعرّضوا له لأكثر من عقدين من الزمن. فاللبنانيون اليوم يجدون أنفسهم بين روايتين: واحدة قدّمتها LBC عن نفسها طيلة 26 عاماً، وثانية رديفة ـــــ تحطّم الأولى، يحكيها كلّ من بيار الضاهر والقوات اللبنانية اليوم. ويبدو واضحاً أن الحريصين على ذاكرتهم من اللبنانيين، والذين لا يزالون يشعرون بحنين وهم يستعيدون بعض المحطات، سيجدون أنفسهم على موعد مع نهاية غير سعيدة. وكما انتهت ذاكرة مجايلي العصر الذهبي لـ«تلفزيون لبنان»، بخيبة، يبدو أن جيل LBC يعيش اليوم خيبة مماثلة، بغضّ النظر عن الاختلاف الكبير بين المحطتين، وعن المتسبّب في وصول TL إلى ما وصل إليه.
كثيرة هي الأمور التي يمكنها أن تدلّنا إلى صورة LBC لدى اللبنانيين، والموقع الذي تحتله. الدراسات الإعلامية على قلّتها لم تستطع تجاهل دور هذه المحطة التلفزيونية وموقعها في الوطن العربي. وهي وردت في موقع متقدّم جماهيرياً في أكثر من أطروحة جامعية تعنى بالفضائيات العربية. إلا أننا سنختار التعرّف إلى المحطة من خلال الصورة التي تقدّمها هي عن نفسها، والتي نجدها في الأغاني الترويجية الخاصة التي كانت تنتجها المحطة في مناسبات مختلفة.
يعرف كثيرون أهمية «الكليبات» في الترويج والتأثير، وخصوصاً من تابع «الإبداع» الإعلامي الذي رافق «انتفاضة الاستقلال» الأخيرة. وعندما يكون الترويج مطلوباً للمؤسسات، يحرص معدّو هذه «الكليبات» عادة على تقديم مضمون يساهم في تعزيز انتماء الجمهور إلى هذه المحطة، جعلهم أوفياء لها، وأفراداً في عائلتها. لم تخلُ «كليبات» LBC من هذه التفاصيل ومحاولة خلق هذا الوعي، إلا أن ميزتها، بالإضافة إلى تقنياتها وصورتها، أنها كانت تروي قصة. هي قصة محطة: ولادتها، تحدياتها، إنجازاتها، إلخ. ما جعل اللبنانيين في حالة من التماهي معها. وهذا بخلاف «الكليبات» الترويجية التي كانت تبثها محطة المستقبل مثلاً (لعيونك، بتمون)، وفيها تماه مع صاحب المؤسسة الذي يدعو المشاهدين: «ع الماضي لا تنوح، المستقبل لإلَك».
حفظ اللبنانيون أغاني «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، ومثّلت مادة أساسية لتعليقاتهم وأحاديثهم في مدارسهم وأعمالهم، وكانوا يتنافسون في الإعراب عن إعجابهم بـ«الإبداع» الذي يرافق إنتاج كلّ منها. «من محطة سطعت أنوارا» التي كتبها الراحل منصور الرحباني، إلى بـ«شرقت شمس الـLBC» الذي صُوّر في أكثر من دولة وشارك في جوائز عالمية، والفواصل المميزة مثل «بحبك من LBC»، «بس ع LBC»، «سوا رح نبقى سوا»، إلخ.
هذه «الكليبات» والفواصل تحكي قصة المحطة التي وُلدت «لما كان الليل دموع وقناديل الناس شموع». وعرّفتنا إلى نجومها: من المقدّمين إلى المعدّين والتقنيين والعاملين خلف الكواليس. ومع ولادة محطات تلفزيونية أخرى، خاضت المحطة التحدي: «لما بديت تتحدّى عرفت حالها شو بدا. حطّت عينها ع العالي ونسيت كل اللي حدا». وخاضت الحرب لتصل إلى الفضاء، فخاطبت رئيس الحكومة رفيق الحريري بكليب «تجي نقسم القمر». وعندما وافق على القسمة عام 1996، لم تتواضع: «بالدنيي يتشرق شمسين، الشمس وشمس LBC، والقمر صار عندو رفيق رفيقو قمر LBC. كان ناقص نجمة من هون ت نكمّل نجمات الكون». والهدف، أن تلحق المحطة باللبنانيين إلى الخارج لتهوّن عليهم مشاعر الغربة: «تيصير السفر يلغي السفر، ما يعود في بلدان ما تشوف القمر.. صورة LBC أحلى من أحلى قمر».
وكيف لا تكون LBC حريصة على جمهورها، وهو الذي عاش معها أحلك الظروف، واختبر معها التحدّيات الصعبة؟ ألم تخبره كيف «يا لطيف بسرعة كتير، نقلوا غراضون ع بكير، بلـ LBC. بالسيارة كفّوا البث، ما خلّوا حدن يحسّ، بال عم بيصير»؟ إنه واحد من أشهر «الكليبات» الترويجية للمحطة، والذي نجح قبل 17 عاماً في خلق مشاعر تعاطف مع المحطة وموظفيها الذين «طُردوا» من مقرّهم و«فُرِض» عليهم الانتقال إلى مكان آخر.
ليس غريباً على من صادر وسرق وسجن، أن يكون أيضاً الأب الذي يقتل طفله في لحظة تحدّ
كان يجب أن يمرّ وقت طويل، قبل أن يعرف الجمهور معنى مختلفاً لعبارة «ما خلّوا حدن يحسّ بال عم بيصير». مع السجال الدائر اليوم، عرفت شريحة واسعة من الجمهور أن المحطة كانت مخطئة يومها، وأنها كانت تصادر أملاكاً خاصة بالدولة اللبنانية وتبثّ منها، وأنها حين انتقلت لم تجد ملاذاً إلا مكاناً كان «سجناً» للقوات كما يقول الضاهر اليوم. من هذا «السجن» وذلك المبنى المصادر، خرج كلّ هذا «الإبداع» الذي غذّت LBC مخيّلة جمهورها به على مدى عقدين ونصف من الزمن.
قد لا يكون سبب هذه المعرفة الناقصة إلا التقصير من الجمهور نفسه. بالتأكيد قيل يومها السبب، وقد يكون ورد في الأخبار على أنه «سياسة كيدية» من الدولة التي استفاقت فجأة على ضرورة استعادة ممتلكاتها وفي وقت قياسي. إلا أنه قد يكون أيضاً نجاحاً باهراً لتقنيات الترويج والدعاية والقصّ والبرمجة، وخصوصاً إذا تذكرنا أن واحدة من وظائف «الكليبات» الترويجية، هي تحويل النظر عن الحقيقة. حتى أن أحد تعريفات «الكليب» يذهب إلى عدّه أداة رئيسية في عمليات التضليل. فكيف إذا كان هذا التضليل (الإبداع) يقدّم عبر نجوم قريبين من الجمهور هم أبطال مسرح «الساعة العاشرة»؟ الأبطال نفسهم الذين بادروا في مرحلة منع نشرات الأخبار والبرامج السياسية (1994) إلى إنتاج نشرة أخبارية خاصة أبقت مشاهدي LBC على موعد يومي معها تمام الثامنة مساء.
«كيف يمكن القوات أن تأتي بهذا الإبداع؟» يسأل الضاهر في الحلقة التي قرّر أن يخرج فيها عن صمته، وتصدّقه بعد أن تسمع روايته لولادة المحطة. وقد تنام وأنت تعتقد أن الضاهر الذي استنكر خضوع شباب يرتدون ثياباً عسكرية لـ«كاستينغ»، وقع، مثل كلّ مشاهدي المحطة، «ضحية» القصة التي روّجت لها LBC عن نفسها. لكنك ستستيقظ في اليوم التالي على «إبداع» الموقع الإلكتروني لـ«القوات»، وتعرف أن الضاهر نفسه كان عنصراً في هذه الميليشيا من خلال صور وأفلام فيديو، تتيح لك سماعه يقول لموظفي المحطة آنذاك: «أعاهدكم أن تبقى المحطة خط الهجوم وخط الدفاع عن المقاومة اللبنانية... ومثل ما عندكم عسكر ع الجبهات، عندكم عسكر ع الجبهة الإعلامية»!
يضيف الموقع ضمن مجموعة من مقاطع فيديو ارتجالية أعدّها ليردّ فيها على الضاهر الذي أساء الأمانة: «مش مين ما بدو بيكتب التاريخ اللي بدو ياه عن LBC»، ويحكي عن مؤسسة «مدفوع حقها سلفاً من دم الشهداء».
من يكتب التاريخ إذاً؟ وأيّ قصة يجب أن نصدّق عن المحطة؟ القصة التي كبر عليها اللبنانيون، أم القصة الحقيقية التي يرويها صانعو القصة الأولى؟
للمقارنة فقط: في بداية التسعينيات من القرن الماضي نجح مناهضو العولمة ومحاربو الماركات العالمية في تدمير أسطورة NIKE، من خلال الإضاءة على استغلال أصحاب الشركة للأطفال في إندونيسيا وسرد قصص عن ظروف العمل السيئة التي كانوا يخضعون لها. ولكي تستعيد الماركة بريقها، عمدت عام 1999 إلى توظيف آماندا تيوكر، مديرة برنامج «محاربة عمالة الأطفال» في منظمة العمل الدولية، لتساعدها على تغيير الصورة. كما طلبت دراسات من جامعيين أميركيين، منهم دافيد بوجي، الذي كان قد ساهم في الحملات المناهضة لـNIKE، ونفّذ مع طلابه عملاً نظرياً لتدمير صورة الماركة. ما اقترحه كلّ من تيوكر وبوجي، وهما من الذين ساهموا في تدمير صورة NIKE، البحث عن قصة مختلفة لاستغلال عمالة الأطفال التي شوّهت أسطورة الماركة. نصحا إذاً، بإعادة كتابة قصة جديدة تنفي القصة التي سبقتها.
تكاد قصة LBC تكون معاكسة. إذ تتوافر في قصة هذه المحطة كلّ عناصر «الإساءة» إليها، بدءاً من ولادتها غير الشرعية (السطو على محطة الإرسال، خطف الوزير السابق شارل رزق، مصادرة مبنى وزارة التربية،...)، مروراً بسياسات القرصنة التي اعتمدتها على البرامج الأميركية في ظلّ رفض الشركات بيعهم لعدم شرعيتهم، والنقل المباشر للأحداث العالمية، واحتكار السوق الإعلانية... وصولاً إلى يومنا هذا. نجحت المحطة كلّ هذه السنوات في إخفاء صورتها السلبية وجعل كثير من اللبنانيين ينسونها. لم يستطع أحد «من الغرباء» أن يشوّه تلك الصورة أو يغيّر حرفاً في «أسطورتها» على مدى السنوات الماضية. كان المطلوب أشخاصاً يعرفون الخلفية الحقيقية لـ«الإبداع»، أشخاصاً من الذين حضروا الولادة، ليؤدوا هذه المهمة، أشخاصاً تصرفهم المؤسسة أو تبعدهم، فيحاربونها (وفي قصدهم استعادتها) من خلال تدمير أسطورتها. المحزن في هذا الأمر، أنه عندما يعرف المشاهد القصة الحقيقية للمحطة، لا يعود غريباً عليه أن يرى نهاية «أسطورتها» على يد مؤسسيها. ليس غريباً على من صادر وسرق وسجن، أن يكون أيضاً الأب الذي يقتل طفله في لحظة تحدّ.
قد لا ينجح كليب ترويجي في تغيير القصة هذه المرة. ذلك أن الزمن تغيّر، والتطورات المتسارعة التي يشهدها عالم وسائل الإعلام الجماهيرية، غيّرت الكثير في أسس العلاقة التي يقيمها التلفزيون مع الجمهور. نحن في عصر بات الحديث فيه يتزايد عن «نهاية التلفزيون»، وتقلّص دوره لصالح الإنترنت. المجال مفتوح إذاً ليبرز «القواتيون» مواهبهم، وإن كانت التجربة إلى اليوم، وخصوصاً «الحرب على الضاهر» لا تشير إلى قدرتهم على إقناع كثير من اللبنانيين بـ«إبداعهم» في هذا المجال الإعلامي.
* من أسرة «الأخبار»