وائل عبد الفتاحرفرف علم «دولة العراق الإسلامية» مرتين. الأولى على أطلال مذبحة كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة في بغداد، والثانية قبلها بأيام أمام مسجد عمرو بن العاص في قلب القاهرة، في تظاهرة تعترض على قرار الحكومة المصريّة إغلاق القنوات الدينية التي تبثّ على قمر الـ«نايل سات».
الرفرفة الأولى افتراضية على مواقع تبث بيانات تنظيم «القاعدة»، وفرعها الرئيس في العراق. الرفرفة الثانية واقعية، تخفّت في تظاهرة دفاع عن الحرية.
«القاعدة» وصل في وقته تماماً، لم يكن ينقص مصر سوى مغامرات البطلين الخفيّين: أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ها هما يركبان على عناوين الأخبار ويصنعان منها قصة مثيرة تعيدهما إلى أحداث نسيتهما.
البطلان الخفيان يعودان عبر الدماء الغزيرة على باب «سيدة النجاة». هناك لم ينج أحد من القتلة، لكن خرجت معهم رسالة إلى المسيحيين في مصر أثارت الرعب والفزع، وأعادت المتاريس الشائكة على أبواب الكنائس.
«القاعدة» هدّد الأقباط بالانتقام من أسر كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، أشهر امرأتين في مصر، بعدما تحول خلافهما العائلي إلى حدث طائفي اصطفت فيه كل طائفة خلف رايات تطالب كل منها بعودة الأسيرة أو المخطوفة إلى القطيع.
القصة محليّة قبل أن يمنحها «القاعدة» بعدها العالمي. الرسالة عبرت من مذبحة في بغداد، تقاطعت معها رعونة عراقية، بإشراف أميركي، في تحرير رهائن الكنيسة، ووصلت إلى مصر والدولة، لتصنع ثُغَرها صفقات مع بطاركة الطوائف.
النظام صنع بصفقاته ثُغَراً في دولة تفخر طوال عمرها بالتوازن بين الطوائف. ترك للبابا فضاء نرجسيته مفتوحاً لاستعادة الهاربتين من حياة زوجية مملّة لكل منهما مع زوج كاهن. استعادة تشبه الأسر، الذي يبدو طائفياً، لكنه في الحقيقة أسر للحرية الشخصية. فالفرد في عرف البطاركة، كل البطاركة، دينيين وسياسيين مسلمين ومسيحيين، لا قيمة له إلا ضمن قطيع.
«القاعدة» يريد تحرير «الأسيرات المسلمات»، في رد الفعل الأقصى على استعادة «المخطوفات» من وجهة نظر الكنيسة والبابا وقطيع هائج وخائف ومرعوب.
«القاعدة»، في لحظة ضعفه، يبحث عن قصة مثيرة، وجد ضالته في كاميليا ووفاء، دليل ضعف، وتمحك بالأحداث، بعدما كان التنظيم الغامض يصنع الأحداث، بل كان هو الحدث الذي غيّر العالم كله.
ويبدو أن فروع «القاعدة»، بحضورها التلفزيوني وإعلامها المتسرب إلى شوارع القاهرة، أكثر ضعفاً. ولم تمنحها عقود «الفرانشيز» من التنظيم الأم قوة أو مساحة تربك فيها الأمن المصري المنتصر على إرهابه المحلي.
الأقباط خائفون، والبطلان الخفيان يمرحان في الخوف، يتصورانه بطولة خاصة، بينما هو صناعة مشتركة بينهما وبين النظام الساعي إلى خلوده.
بدت مساعي النظام حميدة، بالنسبة إلى بطلين يبحثان عن وجود، ويريدان رفع علم الإسلام على جثة الأمان الشخصي من بغداد إلى القاهرة.
فشل «القاعدة» مع الدول الكبيرة، ولن يجد أمامه إلا مذابح لضحايا جهزتهم لها سياسات وصفقات دعمت الاحتماء بالجماعة الصغيرة، الطائفة والعائلة والقبيلة.
الانتخابات المقبلة بعد أسابيع في مصر، عمودها الرئيسي الانتماءات الصغيرة. المرشح يحتمي بشحن الدفاع عن الوجود، في مجتمع تحكمه لحظة أنانية مفرطة، وشهوة احتكار السلطة والثروة.
الحرب بين النظام في مصر و«القاعدة» بين عاجزين إلا عن الوجود بالقوة، أو بافتعالها. يملك النظام والتنظيم قوة صناعة الضحايا، والتهديد بمزيد من الضحايا.
النظام سيصبح بما يملكه من أجهزة الدولة ملاذاً للخائفين من تهديد «القاعدة»، كأن البطلين الخفيين ظهرا في وقت مناسب لدعم حملة خلود الحزب الوطني الحاكم.
سلّمت أجهزة الدولة كاميليا، ومن قبلها وفاء، إلى الكنيسة، في ظل اتفاق غير معلن على حرمان الفرد في مصر من حرية الاختيار.
الفرد تحت الوصاية. وصاية جماعات تكبر ويقوى جبروتها في السر. لا يستطيع الفرد أن يحب أو يختار دينه وحياته كما يهوى. الجماعة ستصادره أينما كان، وأجهزة الدولة ستسلمه مثل أي خروف شارد عن القطيع. تسليم بمنطق «أسير القبيلة» إلى القبيلة المنافسة. طقوس التسليم جرت كلها بمعرفة أجهزة الدولة من كواليس أعلى سلطة إلى ضابط أمن الدولة الصغير. والآن بعد تهديد «القاعدة»، ستنتشر حواجز أمن جديدة لتحمي الخرفان الضالة من الذبح.