strong>ورد كاسوحة*منذ أن بدأت إسرائيل حصارها لغزة، وأعداد المتضامنين الدوليين مع شعبها المحاصر في ازدياد مطّرد. لم تنفع كلّ مضايقات الدولة العبرية في ثني هؤلاء عن فعلهم النضالي، تساعدهم في ذلك خبرتهم المديدة في الحركات الاحتجاجية المناهضة للفاشية السياسية. فأغلب هؤلاء المتضامنين آتون من خلفيات يسارية ذات صلة وثيقة بمحطات مفصلية في بلدانهم: أيار 68 ودعم حرب تحرير الجزائر في فرنسا، مناهضة حرب فيتنام في أميركا، النضال ضد حقبة الديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية وإسقاطها...الخ. ومن لم يعاصر تلك الأحداث من الجيل الجديد من المتضامنين، قرأ عنها في الكتب والوثائق، أو وصلته عبر روايات شفهيّة وأفلام وثائقية رصينة. ذلك أنّ فعل التراكم ضروري في الحالة النضالية، حتى لا ينقطع التواصل بين ما حدث بالأمس وما يحدث اليوم. ومأساة غزّة شاهد حيّ على ذلك. فهل كان جيل الستينيّات ليظنّ أن جريمة كجريمة حصار غزة ممكنة بعد كلّ ما فعلوه قبل أربعين أو خمسين عاماً ضد العسف الرأسمالي ـــــ الإمبريالي وملحقاته في دول الجنوب؟
وحده الساذج يعتقد أن بإمكانه اليوم أن ينجو من عسف مماثل وحيداً من دون تشبيك مع من يقع عليه الاضطهاد من الضفّة الأخرى. لذلك نقول إن مناهضي الرأسمالية يجب أن لا يكونوا أقلّ دهاء منها. ففي النهاية، هنالك حدود لكل شيء. وحدود الرأسمالية أظهرتها الأزمة الدورية الأخيرة على أكمل وجه. ذلك أن الحلّ (الخلاص الفردي أو المبادرة الفردية) الذي بشّرت به مراراً يتعرّض اليوم لامتحانات قاسية. وإلا ما معنى أن يعود مناضل يساري قديم شارك في الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968 ليرفع في غزة شعارات تحاكي ما كان يقوله قبل أربعين عاماً ونيّف؟ وهو إذ يفعل ذلك لا ينسى أن من يتضامن معهم في حصارهم اليوم هم ضحايا دولته بقدر ما هم ضحايا إسرائيل التي رعتها تلك الدولة وأمدّتها بالسلاح وشاركتها في العدوان على مصر في عام 1956. لا أعتقد أن ترف النضال وحده هو ما قاد هذا الرجل أو غيره إلى أرض فلسطين المحتلة. فما يحدث في فلسطين غير منقطع الصلة عن الأحداث الجارية في فرنسا وأوروبا. أحداث تبدأ بالنقاشات حول «الهوية الوطنية» والنقاب وقضايا الهجرة، ولا تنتهي بالهواجس الاقتصادية وأشباح الكساد والتضخّم والبطالة وحقوق العمال.
ولمن يجد «مبالغة» في الربط بين ظواهر لا يجمع بينها «رابط منطقي»، نقول: ابحثوا عن فلسفة العلاقة بين نيكولا ساركوزي وسيلفيو برلوسكوني وأفيغدور ليبرمان وغيرت فيلدرز و...إلخ، تجدوا الرابط المنطقي. آه... نسينا ريجيس دوبريه! لكن الرجل «مثقف يساري عضوي» على ما قال غرامشي يوماً، وليس سياسياً انتهازياً كهؤلاء. كما أنه لا يمتّ بصلة إلى برنار هنري ليفي وآلان فينكلكروت وباقي ممثلي الليكود في النخبة الأوروبية. حسناً. إذا كان ذلك صحيحاً، فماذا ذهب يفعل في غزة إذا لم يكن ذهابه لمصلحة التضامن مع أهلها ضد همجية إسرائيل؟ الجواب لدى وكالة الصحافة الفرنسيّة التي أوردت في خبر لها أخيراً ما حرفيته: «بحث كاتب وناشط حقوقي فرنسيّان في غزّة... مع رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنية قضية الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. واجتمع الكاتب والمثقف ريجيس دوبريه والناشط في مجال حقوق الإنسان ستيفان إيسيل مع هنيّة... وقال إيسيل: لقد شدّدنا خصوصاً على الوضع غير المقبول لجلعاد شاليط «المعتقل في مكان سري في قطاع غزة منذ أربع سنوات».
هكذا إذاً. ذهب المثقف العضوي السابق إلى غزة ليستكمل فعل الوساطة الذي لم ينجزه «نظيره» الألماني. لكن الوسيط الألماني آتٍ من عالم الاستخبارات لا من عالم الثقافة والتنظير لحوار الحضارات (عاد ونقض الرجل تنظيره هذا في كتاب سمّاه: «أسطورة معاصرة اسمها حوار الحضارات»)، كما هي حال دوبريه. وشتان ما بين الاثنين. فالعمل الاستخباري هو امتداد للسياسة التي تنتهجها هذه الدولة أو تلك. والنجاح في المهمة الاستخبارية يعني تحقيقاً لمصلحة براغماتية لا مكان فيها للأخلاق أو لحقوق الإنسان. وما فعلته ألمانيا في ملف الوساطة بين حماس وإسرائيل هو بالضبط استثمار دورها الاستخباري لتحقيق مصلحتها في المنطقة. هكذا تفعل الدول عندما تنتدب وسطاء لها في صفقة ما. فهل هذا هو ما يفعله دوبريه اليوم؟ وهل هو وسيط بين فرنسا ومن خلفها إسرائيل وحماس؟ وما هي المصلحة التي ستحققها هذه الوساطة لفرنسا؟
قد تكون العطالة الفرنسية الحالية هي الجواب على هذه الأسئلة مجتمعة. عطالة تطال السياستين الداخلية والخارجية على حدّ سواء. هنا نعود إلى إشكالية اليمين الذي يحكم أوروبا اليوم بسياسة «العصا الغليظة». وحين يحاول مداراة مأزقه الداخلي باللجوء إلى السياسة الخارجية، لا يجد ما يفعله. وإذا ترك له هامش ما، سيملأه كالعادة بالخيال العقيم وسوء التدبير. حتى عندما تتوافر لديه «نخب» و«كفاءات» منحدرة من أصول يسارية عريقة، لا يعرف كيف يستثمرها ويموّه بها واحديّته، وينتهي به الأمر إلى حرقها واستنفادها تماماًً. هذا ما حصل مع برنار كوشنير «اليساري العريق»، وهذا ما سيحصل مستقبلاً مع ريجيس دوبريه إن ارتضى لنفسه دوراً مماثلاً. نعلم اليوم أنه واحد من مؤسسي «الحزب الجديد المناهض للرأسمالية» (يرأسه أوليفييه بوزانسنو) إلى جانب الراحل دانيال بن سعيد، وهذا أمر كفيل وحده بالقضاء على أي بوادر التحاق باليمين الحاكم وسرديته الأمنية. لكنّ ذهاب الرجل إلى غزة بأجندة مفارقة تماماً لأجندة التضامن الدولي مع شعبها ضد الحصار الهمجي، يحمل المرء على التشكّك بـ«يساريّته» وآرائه (السلبية) التي أبداها في كتاباته الأخيرة تجاه إسرائيل (يراجع في هذا الخصوص كتابه: «رسالة إلى صديق إسرائيلي»).
فالموقف من غزة وشعبها المحاصر (لا من سلطة حماس) بات اليوم معياراً للحكم على هذا الموقف أو ذاك. هنا نحن أمام حالة شبيهة بحالة حرب فيتنام. مَن انحاز يومها إلى الأميركيين ضد مقاومة شعب فيتنام أصبح نسياً منسيّاً (هل من يقارن اليوم بين صورتي جين فوندا وريتشارد نيكسون؟). أما من اختار الاصطفاف إلى جانب هوشي منه وأبنائه، فقد أنصفه التاريخ، رغم كل الترّهات التي ساقتها دعاية هوليوود الفظّة ضد هذا النسق من الإنصاف. وكي لا نظلم ريجيس دوبريه اليوم، ونضعه في موضع مفارق «لراديكاليته اليسارية» المستعادة، دعونا نعُد إلى التاريخ ونجرِ تعديلاً طفيفاً لبعض وقائعه. تخيّلوا مثلاً لو أنّ جين فوندا ذهبت لتفاوض يومها الثوار الفيتناميين على إطلاق سراح جندي أميركي محتلّ! ماذا كان سيحلّ بصورة تلك الممثلة اليسارية الراديكالية؟ هل كانت ستحافظ على موقعها المكتسب كأيقونة ذلك الجيل من اليساريين؟ واستطراداً هل كنا لنراها في عام 2003 في مقدمة المتظاهرين ضد حرب العراق في أميركا؟
في ضوء هذا التمرين، ماذا يمكن أن نقول عن ذهاب دوبريه إلى غزة؟
في الشكل، لم يلتق الرجل أيّاً من المسؤولين الإسرائيليين أثناء عبوره إلى القطاع المحاصر (اقرأ: سلطة الاحتلال)، بل اقتصر لقاؤه على رئيس حكومة حماس المنتخبة إسماعيل هنية (اقرأ: ممثل الشعب المحاصر من طرف الاحتلال). حتى الآن لا غبار على مواقف صاحب «ثورة داخل الثورة». لكن الانعطافة ستحدث عندما ننتقل إلى المضمون، إذ فهمنا أن رفيق غيفارا سابقاً سيبحث مع ممثّل الشعب المحاصر وضع أحد جنود الاحتلال الذي اعتقل وهو ينفذ عملية عسكرية ضد شعب أعزل.

تخيّلوا لو أنّ جين فوندا ذهبت لتفاوض الثوّار الفيتناميّين على إطلاق سراح جندي أميركي!


طبعاً، يمكن تفهم هذا الأمر إذا ما أخذنا بالاعتبار ظروف اعتقال الجندي وبقاءه في الأسر طيلة أربع سنوات من دون لقاء أحد من ذويه. لكنّ التفهّم يكفّ عن كونه كذلك عندما نعلم أن شاليط هذا يتساوى في المنطق الصهيوني مع عشرة آلاف رجل وامرأة وطفل يقبعون منذ سنوات في سجون الاحتلال، من دون أن يراهم أحد أو أن يخضعوا لـ«محاكمات قانونية» تتيح لهم إمكان أن يعرفوا لماذا هم هناك أصلاً.
هل من يسأل ريجيس دوبريه عن رأيه في هذا النسق النازي من التعامل بين البشر؟ يبدو أنه لا يواجه مشكلة في ذلك! وإلا ما كان ليذهب أصلاً إلى غزة للتفاوض على مصير هذا الصهيوني. لكن عدم وجود مشكلة لديه في ذلك، هي مشكلة بحد ذاتها. إذ بمجرد أن يقبل فرد ما بفكرة أن شاليط أولى بالاهتمام والرعاية، بحكم صهيونيته، من ألوف المعتقلين العرب، يكون هذا الفرد قد تصالح تلقائياً مع فظاعات نظرية (نازية طبعاً) أمضى عمره وهو يحاربها. عندها لا يعود ممكناً اللجوء إلى تبريرات موضعية من قبيل: إن جلعاد شاليط يحمل إلى جانب جنسيته الإسرائيلية جنسية فرنسية. فالنقاش هنا لم يعد متعلقاً بحيازة جندي إسرائيلي الجنسية الفرنسية من عدمها، بقدر ما بات متصلاً بوجود شعب بأكمله خلف قضبان الجلاد. شعب يُختزل الى أرقام بلا وجوه ولا أسماء ولا بطاقات تعريف. وإذا حدث وبُحث مصيره يوماً، لا يكون ذلك إلا عبر ربطه بمصير جندي صهيوني واحد. جندي يعرفه ريجيس دوبريه جيداً. ولأنه يعرفه ويعرف ما معنى أن يكون هذا الجندي صهيونياً، ذهب إلى غزّة ليتفاوض على إطلاق سراحه، وليشهد على أن هذا «المواطن» الإسرائيلي ـــــ الفرنسي يستحق منّا ما لا يستحقه عشرة آلاف مواطن فلسطيني. فهؤلاء، في النهاية، ليسوا فرنسيّين ولا إسرائيليّين، واستحضار قضيتهم في غزة (وفي غير غزة) سيكون على حساب قضية شاليط. وهذا ما لا طاقة لإنسانويّ كدوبريه عليه. إذاً، فليبقوا حيث هم، ولتذهب الرطانة المناهضة للنازية إلى الجحيم.
* كاتب سوري