أخطاء فادحة ارتكبتها السياسة الخارجية البحرينية نحو الجارة إيران، آخرها: الدعوة إلى إسقاط نظام إيران، والدعوة للاعتراف بمجاهدي خلق كبديل مشروع من نظام الجمهورية الإسلامية، كما عبر «مبعوث» الديوان الملكي، و«ممثل» البحرين النائب جمال بوحسن، أثناء حضوره اجتماع المعارضة الإيرانية، في العاصمة الفرنسية باريس، في تموز الماضي.
ذاك في العلن، أما في السر فالأمر لا يختلف، فقد نشرت وثائق «ويكليكس» أن الملك ووليّ العهد يريان في إيران «التهديد الأكثر جدية على المدى الطويل للبحرين والمنطقة»، وأنه يتوجب على الجميع مواجهتها.
إذاً، في الغُرف المغلقة وعلى الملأ، تعبّر السلطات الحاكمة في البحرين عن موقف يتجاوز كونه نقداً تجاه إيران، وليس من المبالغة القول إنه موقف عدائي نحو النموذج القائم في طهران، نظاماً ودستوراً، وممارسات داخلية، وسياسات خارجية، في حين يفترض بدولة صغيرة، تعاني تحديات جمة واستثنائية، أن تركز في قضاياها الداخلية التي باتت أكثر تعقيداً، وتداخلت فيها المؤثرات الإقليمية، التي يُقدّر الآن، كما سابقاً على أي حال، أنها أكثر تأثيراً في حسم شكل خريطة الصراع، من تفاعلات الداخل.

تبني إسقاط النظام الإسلامي

في يوليو/ تموز الماضي، شارك نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب البحريني جمال بوحسن، في مؤتمر نظمته حركة «مجاهدي خلق»، في باريس، ومعروف لكل المتابعين للشأن البحريني أن الديوان الملكي يتحكم كلياً بمجلس النواب، مدخلات ومخرجات، وهذا شأن «البرلمانات»، عموماً، في دولنا العربية.
لكن الإشكال ليس في المشاركة في اجتماع لمنظمة تُعد أبرز أعداء الجمهورية الإسلامية، وإنما في نوع الخطاب الذي رفعه بوحسن، والذي يعبر عن الموقف الرسمي، بدليل عدم نأي السلطات بنفسها عن هذا الخطاب، بل إن الإعلام البحريني، الخاضع للحكومة، مليء بكل ما يسيء للعلاقات البحرينية الإيرانية، فيما لا يتورع وزير الخارجية عن الإساءة لإيران ونظامها وشعبها وخياراته، حتى من دون أن تسنح الفرصة. في كلمته التي القاها بحضور مريم رجوي زعيمة المنظمة الساعية لاسقاط نظام الحكم الإيراني، تمنى بوحسن أن يكون اللقاء المقبل في «طهران المحررة من نظام الطواغيت والإرهاب والفرقة... النظام الفاشي، نظام الملالي».
ودعا بوحسن، إلى دعم «المقاومة الإيرانية»، وأشار إلى بيان تبناه مجلس النواب البحريني، بـ«الغالبية»، لدعم مجاهدي خلق، مضيفاً أنه «حان الوقت لسماع صوت الشعب الإيراني ومقاومته المشروعة»، معتبراً: «أن الدعم الحقيقي لهذه المعارضة سيكون خير وسيلة لإحداث التغيير»، داعياً الغرب والعرب إلى «الاعتراف بالمقاومة الإيرانية كبديل مشروع لهذا النظام»1، وطبعاً لقي هذا الخطاب تصفيقاً حاراً من قبل الحضور، الذين تطلق عليهم إيران لقب «منافقي خلق».
ليست تلك المرة الأولى التي تشارك فيها شخصيات محسوبة على النظام البحريني في اجتماعات للمعارضة الإيرانية، فقد القى النائبان السابقان علي زايد وعبد الحكيم الشمري كلمتين منفصلتين في اجتماع لمجاهدي خلق عقد في يونيو/ حزيران 2014، وعبّرا عن مواقف شبيهة بما عبّر عنها بوحسن، بما في ذلك إعادة تأكيد دعم البرلمان البحريني للمنظمة التي تتهمها طهران بتصفية رجالات الثورة، وتسريب معلومات عن البرنامج النووي الإيراني للقوى الغربية.

المتابع للتصريحات
البحرينية يجدها أكثر حدة
من نظيراتها الخليجيات

ومن دون شك، فإن استمرار الخطاب البحريني المعادي لإيران في محافل المعارضة الإيرانية، يعطي دلالات أكبر على أن مشاركة بوحسن لم تكن استثناء، وإنما هي جزء من سياسة أوسع تتبناها المنامة ضد طهران، تتسم بقدر فاقع من النرجسية، والإساءة غير المسؤولة للآخر.

الدور السعودي

المتابع للتصريحات البحرينية يجدها أكثر حدة، في كثير من الحالات من نظيراتها الخليجيات، بما في ذلك المواقف السعودية. وتستخدم الرياض المنامة، عادة، للتعبير عن مواقف آل سعود المتشددة، فيما تمضي المنامة مزايدة، وكثيراً ما تفتقد الكياسة والدبلوماسية في نقدها طهران، وغير طهران، وللقارئ أن يتابع تصريحات وتغريدات وزير الخارجية خالد بن أحمد، الذي يتحدث أحياناً بلغة غير متعارف عليها في القاموس الدبلوماسي تجاه الجمهورية الإسلامية وغيرها.
ويمكن الإشارة إلى العلاقة مع قطر، مثالاً، فرغم أنه لا مصلحة تقتضي تأزيم العلاقات البحرينية القطرية بعد حل الخلاف حول جزر حوار (2000)، فإن سياسات الملك حمد تجاه الدوحة ظلت فاقدة للبصيرة، متأثرة بالخيار السعودي الذي كان معادياً لقطر، لكنه أيضاً مرتكز إلى نظرة عدائية تجاه الدوحة يصعب تفسيرها، إلا كونها نابعة من عداء تاريخي بين العائلتين، يفترض أن تكون تطورات السياسة في العقود الماضية وتشكيل الدولة القطرية قد محتها، كما مُحيت، أو تكاد، من بنود العلاقة بين الأدرن والسعودية، أي خلافات تتعلق بكون آل سعود هزموا الشريف حسين، وأسقطوا ملكه في الحجاز.
من هنا، تجد الملك البحريني يرمي التهم باطلاً نحو الدوحة وطهران في دعم المعارضة البحرينية، من دون تقديم أي دليل على ذلك، وهذا ما يفقد الرواية الحكومية الكثير من صدقيتها في نظر الإعلام الدولي، الذي يتعاطى بحذر بالغ من روايات الإعلام الرسمي البحريني.
في حالة إيران، القصة تبدو أكثر أهمية، وإضافة إلى النهج السعودي الذي تقلده المنامة، كفرخ بط يمشي خلف أمه، فإن بعداً محلياً طاغياً يزيد من غياب الحكمة، ذلك أن جل الرواية الخليفية، تجاه المعارضة المتجذرة في البحرين (عمرها يمتد عقوداً طويلة)، تقوم على أن المعارضة ليست لها أرضية محلية بل خارجية (إيران)، إرهابية (أسلحة إيرانية)، عنيفة (تدريب إيراني) طائفية (شيعة يتبعون إيران)، وكل هذه الترهات اتضح زيفها على أي حال.
إن سقوط فرضية ارتباط إيران بالحدث المحلي، يعني انهيار أبرز مرتكزات الثورة المضادة في البحرين، ولذا بينما قبل الملك حمد بن عيسى آل خليفة كل استنتاجات لجنة تقصي الحقائق في الانتهاكات ضد المعتصمين في دوار اللؤلؤة، والحملات الأمنية العنيفة التي تلت الاعتصام الشهير في فترة الطوارئ بين مارس ومايو 2011، بما في ذلك الاتهامات الموجهة إلى قياديين في النظام عن عمليات التعذيب والقتل الممنهج، فإن الملك رفض الخلاصات التي انتهى إليها محمد شريف بسيوني، الذي قال في كلمة ألقاها أمام ملك البحرين في 23 نوفمبر 2011 أن «الأدلة المقدمة (من حكومة البحرين) إلى لجنة تقصي الحقائق، بشأن دور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في الأحداث الداخلية في البحرين، لم تكشف عن علاقة واضحة بين أحداث بعينها وقعت في البحرين في فبراير/ شباط ومارس/ اذار 2011 ودولة إيران»، وعلق الملك على ذلك بالقول بأن «الهجمة الإعلامية حقيقة موضوعية، تشكل تحدياً مباشراً ليس فقط لاستقرار وسيادة وطننا فحسب بل تهديداً لأمن واستقرار كافة دول مجلس التعاون».

الموقف الإيراني التالي

من غير المتوقع أن لا يكون السلوك البحريني الداعم لمجاهدي خلق، محل عناية في دوائر القرار في طهران، ولعله يتوجب مراقبة ردود الفعل الإيرانية تجاه ما تمكن تسميته تجاوز المنامة الخطوط الحمراء تجاه طهران التي لا يعرف عنها تغاضيها عمن يريد استهداف أمنها القومي.
ما يعني صانع القرار الإيراني ليس كون البحرين تحرّض ضد طهران خليجياً وعربياً ودولياً، وليس حتى الاجتماع مع جماعات معارضة إيرانية، فهذا أمر معتاد، وإنما ما يمكن توقعه أن يكون محل غضب إيراني هو أن المنامة مضت في التعبير علنا عن الرغبة في اسقاط الحكم الإيراني، آملة خلق ائتلاف معارض، قوامه مجاهدي خلق، والبدء في تحرك عسكري وسياسي ضد النظام الإسلامي «الطاغي والذي يتسبب في عدم الاستقرار في المنطقة».
وحتى وقت قريب، كان الرأي العام المعارض، لا يتقبل تدخلاً إيرانياً في المسألة البحرينية الداخلية، وذلك بسبب الشعور الوطني، والبعد القومي العربي، والقلق من أن يقود تدخل إيران، بعد السعودية، إلى تعقيد الحالة البحرينية، ويخلق تصادماً ساخناً سعودياً إيرانياً على أرض الجزيرة الصغيرة، فضلاً عن التأثر بالعداء الرسمي والخليجي والعربي والغربي لطهران وتوجهاتها، لكن استمرار انسداد الأفق، والتشجيع الغربي للاستبداد في المنامة، قد يعطي مزيداً من الاعتبار لتحذير واشنطن حليفتها المنامة، من أن استمرار الأزمة وتصاعدها قد يعززان من نفوذ طهران في الشارع البحريني.
ومن المهم الإشارة هنا إلى ما كشفته الوثيقة الأميركية السرية رقم 08MANAMA795، المؤرخة في 12 فبراير 2008، والتي نشرها موقع ويكيليكس الشهير من أن «السلطات البحرينية لم تقدّم (للإدارة الأميركية) أي دليل حسّي على وجود لحزب الله أو خلايا نائمة مرتبطة بإيران في البحرين».
وعادة ما تشتكي حكومة البحرين من قيام إيران بدعم المعارضة، ذات الصبغة الشيعية. لكن إيران تنفي ذلك، فيما تشير الوقائع إلى دعم إعلامي إيراني واضح لخطاب المعارضة، (قناة العالم مثلاً)، في ظل حصار عربي خانق، تفرضه قناتا الجزيرة والعربية على الرؤى المطالبة بالإصلاح. وقد ظل الخطاب الدبلوماسي الإيراني ينتقد انتهاكات حقوق الإنسان، ويدعو للحوار بين المعارضة والسلطة، وهو إلى حد كبير شبيه بخطاب الولايات المتحدة والغرب، مع فارق بيّن، أن أميركا لم تكف عن انتقاد تقليص الحريات في المنامة طوال عقود مضت، أما إيران فإن نقدها بدأ في 2011. بيد أن الفارق الأهم يتضح في تعاطف الإدارة الأميركية مع عائلة آل خليفة الحاكمة، فيما تبدي إيران الشعبية والرسمية تعاطفاً مع القطاعات المعارضة الواسعة الداعية للشراكة السياسية، و«المظلومة»، وفق التعبير الإيراني.
إن استمرار الاضطهاد السياسي للمعارضين في الداخل وتناميه، وغياب الحكمة في التعاطي مع ضغوطات الإقليم المضطرب، يسجل فشلاً للحكم في تفادي الزج بالبلاد في قوس الحريق الهائل الذي يعم المنطقة، بما ينبئ للبحرين بالأسوأ.
رغم ذلك، يرى البعض أنه ما زالت أمام البحرين فرصة لتكون نموذجاً للتعايش والرخاء، لو التفت الملك إلى أن خياره البائس ما زاد الطين إلا بلة، فيما عليه أن يتوقف عن الحفر وهو في حفرة عميقة، أصلاً.
* كاتب وباحث بحريني ــ لندن