تونس | سعت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، خلال زيارتها لتونس، إلى البحث عن تفاهم مع الرئيس قيس سعيد، ينهي تدفّق الهجرة غير النظامية في اتّجاه السواحل الأوروبية. وسارع الرئيس التونسي إلى اغتنام الفرصة، للظهور على هيئة «شرطيّ المتوسط»، في مقابل الحصول على دعم مالي، وعدم التدخُّل في الشأن السياسي الداخلي لبلاده. ويعوّل سعيد على انفراجة في المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي» بضغط أوروبي، مستغلّاً ورقة الهجرة غير النظامية لدفع الهيئة المالية الدولية إلى إقراض تونس ضمن شروط لا تكون مجحفة بحقّ الدولة. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ انقضاض سعيد على جميع السلطات، ومن بينها إشرافه المباشر على المؤسّستَين الأمنية والعسكرية، تضاعف تسع مرّات عدد المهاجرين غير النظاميين، من ألفي مهاجر وصلوا عبر القوارب إلى الساحل الإيطالي في عام 2019، إلى 18 ألفاً في مطلع 2023، وفق أرقام السلطات الإيطالية.لا تعوز الأمن التونسي ولا خفر السواحل والمؤسّسة العسكرية، المعلومات أو المقدرة لكبح الهجرة غير النظامية أو إطاحة شبكات التهريب؛ ولكنّ الأمر يبدو أقرب إلى قرار سياسي بالتغاضي عن القوارب المتّجهة نحو أوروبا، ولا سيما في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والمعطوفة على الاحتقان الاجتماعي من جرّاء جحافل العاطلين من العمل، سواء التونسيون منهم أو الأفارقة الذين قدموا إلى تونس، أملاً في الوصول إلى الساحل الإيطالي، ما يسمح للسلطات التونسية التي تتخبّط هي نفسها بحثاً عن حلول، تالياً، بتصدير الأزمة إلى أوروبا. واتّجهت الرئاسة التونسية إلى لعب هذه الورقة الحرجة بالنسبة إلى أوروبا، بعدما بادرت الأخيرة برفع ورقة حمراء في وجه نظام قيس سعيد، بحجة «الدفاع عن الديموقراطية» والمؤسسات المنتخبة، مضيّقة الخناق عليه عبر الضغط على المؤسّسات الدولية المانحة من أجل الإحجام عن إقراض حكومة نجلاء بودن.
وبدا جليّاً أن رئيسة الحكومة الإيطالية ستلعب دور الوسيط من أجل دعم تونس، على أمل أن توقف هذه الأخيرة موجة الهجرة التي تضرّرت منها إيطاليا بصورة خاصّة، ما حدا بروما إلى التقارب مع سلطة سعيد، ومخالفة النهج الذي اتبعته جارتها فرنسا، والتي لم تكتفِ بإيقاف أيّ دعم اقتصادي لتونس، بل أوقفت بشكل مخالف لكلّ الأعراف الدبلوماسية إسناد التأشيرات للتونسيين من أصحاب الكفاءات الأكاديمية والفنية. وقالت ميلوني، عقب لقائها الرئيس التونسي، إن إيطاليا ستدعم جهود السلطات التونسية لحلّ الأزمتَين الاقتصادية والاجتماعية بمقاربة جديدة غير تقليدية. وأضافت أن البداية ستكون من خلال فتح خطّ تمويل بـ700 مليون يورو سيكون موجّهاً لتمويل الخدمات الأساسية والقطاعات الحيوية كالصحة والتعليم. وشدّدت رئيسة الوزراء الإيطالية، التي لا تخفي أنها لا تحمل كثيراً همّ الديموقراطية وحقوق الإنسان خارج حدود وطنها، على احترامها التامّ للسيادة التونسية.
اتّجهت الرئاسة التونسية إلى لعب ورقة الهجرة غيرة النظامية الحرجة بالنسبة إلى أوروبا


من جهته، تلقّف سعيد الكرة، ليملي شروطه على الجانب الإيطالي، ومن ورائه الأوروبي، مؤكداً، في كلمة أعقبت زيارة ميلوني، أنه لن يقبل بشروط «صندوق النقد الدولي» التي إنْ طُبّقت لن تؤدّي إلّا إلى تحريك الشارع التونسي وربّما إلى قيام ثورة جديدة؛ فما يطرحه «الصندوق» من تسريح موظّفي القطاع العام وإنهاء دور الدولة في حماية القطاعات الصناعية والاستهلاكية وفتح المبادرة للاستثمار الأجنبي من دون قيد أو شرط وخصخصة المؤسّسات الحكومية، لن يجعل حياة التونسيين أسهل.
وتعيد هذه التطورات إلى الأذهان، طبيعة العلاقة بين نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي والضفة الشمالية للمتوسط؛ فلطالما كانت حراسة تونس لبوابة أوروبا رهينة لما تقدّمه هذه الأخيرة لدعم الاقتصاد والنظام أيضاً، إذ قَبِل ابن علي لعب دور شرطي المتوسط، في مقابل تحصيل قروض وتمويلات لا تُطبَّق عليها شروط صارمة. وانقلبت العلاقة الأفقية والمُرضية للطرفَين بعد انتفاضة عام 2011، إلى علاقة عمودية سمتها العنجهية، إذ أُجبرت تونس على لعب دور الشرطي وكبح تدفّقات الهجرة، في موازاة توفير المعلومات حول التحرّكات الإرهابية التي حالت دون وصول الإرهابيين إلى أوروبا، ومن دون مقابل يُذكر، ما عدا دعم توازنات سياسية حفظت استقراراً سياسياً لم تنتج منه أيّ انفراجة في الأزمة الاقتصادية. ولكن يُذكر للرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، رفْضه الصريح للطلب الأوروبي، في عام 2017، تحويل تونس إلى «سجن للمهاجرين غير النظاميين»، واحتضان مئات الآلاف منهم.
في المقابل، لم يتوانَ المجتمع المدني عن استغلال زيارة ميلوني للتعبير عن رفضه أيّ اتفاق مع سعيد لا يراعي حقوق الإنسان وخاصة الحقّ في التنقّل؛ فالاكتفاء بتمويل موازنة الحكومة وإحداث انفراجة مؤقتة في الأزمة الاقتصادية، وإنْ كان حلّاً يَقبله سعيد، لا يمكن أن يقبله الحقوقيون والمنظّمات الأهلية التي تطالب بوضوح بالتخفيف من حدّة شروط الهجرة إلى أوروبا، وعدم ممارسة الانتقائية والتمييز العنصري في إسناد التأشيرات لسكان الضفة الجنوبية من المتوسط، وهو ما سيجعل تدفّقات الهجرة أكثر انتظاماً. وانتهزت المنظّمات الفرصة لتذكير ميلوني بما اقترفته الحكومات الإيطالية السابقة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بعدما حوّلت المتوسط إلى مقبرة واسعة وامتنعت عن نجدة قوارب المهاجرين، ما يجعل الطرف الإيطالي مطالَباً بأكثر من مجرّد قرض صغير لضمان استقرار الأوضاع في البلاد.