الجزائر | أحدثَ الخطاب الأخير لرئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أول السعيد شنقريحة، خلال زيارته التفقّدية لقيادة قوات الدفاع الجوي، جدلاً واسعاً في الجزائر، بعدما تضمّن إشارات إلى «عودة الأصوليين»، وهو ما أثار تساؤلات كثيرة لدى الرأي العام، وقسمه بين مشكّك في واقعية ذلك الحديث، ومقرّ بها، بل ذاهب إلى أنها قد لا تعبّر عن كلّ ما في حوزة أجهزة الأمن. وقال شنقريحة إن هناك محاولات وصَفها بـ«اليائسة»، «تستهدف أمن واستقرار الوطن، ووحدة الشعب الجزائري»، ومن «بين تجلّياتها ومظاهرها، عودة بعض الصور والمشاهد لنشاطات بعض الأصوليين الذين يتبنّون خطاباً دينياً متطرّفاً يذكّرنا بسنوات التسعينيات من القرن الماضي». وخاطب شنقريحة تلك الفئة بالتأكيد أن «ذلك الزمان قد ولّى إلى غير رجعة»، وأن «مؤسّسات الدولة الراسخة لن تسمح بأيّ حال من الأحوال بعودة هؤلاء المغامرين، الذين كادوا أن يدفعوا بالبلاد إلى الهاوية، ويتسبّبوا في انهيار أركان الدولة الوطنية، التي ضحّى من أجلها الملايين من الشهداء الأبرار».وفيما لم يوضح رئيس الأركان الجهة المقصودة بحديثه، فإن أول مَن يتبادر إلى الأذهان - نظراً إلى الحقبة المشار إليها - هو حزب «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» المحظور، والأزمة الأمنية التي نشبت بُعيد استقالة الرئيس الأسبق، الشاذلي بن جديد، عام 1991، بين الأجهزة الأمنية وجماعات مسلّحة، واستمرّت قرابة العشر سنوات. وحينها، زُجَّ بقادة جبهة «الفيس»، ومن بينهم الرجل الثاني في الحزب، علي بن حاج، في السجن، حتى عام 2005. ولا يزال هذا الأخير ناشطاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، فضلاً عن الدروس التي يعطيها في المساجد، بعدما مُنع من النشاط وحتى التنقّل بحريّة، بالنظر إلى أن انتقاداته للنظام ظلّت على حدّتها، حتى أنه كان أوّل من ردّ على خطاب شنقريحة، بالقول إن «قائد الأركان يحاول إلهاء الرأي العام عن القضايا المحوريّة التي تهمّ المواطن»، وإن «إطلاق حريّة التعبير وسراح السجناء السياسيين، وتحسين معيشة الجزائريين، أَولى».
وباستثناء خطاب بن حاج في بداية نيسان الجاري، لم تسجّل تدخلاته الحادّة جديداً، ما أحال متابعين للشأن السياسي الجزائري إلى ظواهر أخرى قد تكون المحرّك الأول لخطاب رئيس الأركان، منها المعلوم، على غرار محاولة شباب توقيف بثّ أغانٍ وصفوها بـ«الصاخبة» في سهرة رمضانية أَشرفت عليها وزارة الثقافة والفنون، وتلت تنظيم أكبر إفطار جماعي من ساحة البريد المركزي إلى شارع عبد الكريم الخطابي في الجزائر الوسطى. ومن بين المظاهر المُشار إليها أيضاً، الجدل الذي صار يُثار بين الأئمة حول قضايا دينية تُعتبر محلّ خلاف بين المذاهب، وخاصّة أن مواقع التواصل الاجتماعي تتيح مشاهدة دروس وخطب مباشرة من المساجد، وحتى فيديوهات لفتاوى الأئمة أو للتعاليم الدينية. لكن المرجّح أن تلك الأحداث لا ترقى إلى أن تكون موضوع خطاب شنقريحة، الذي يَحتمل البعض استناده إلى تقارير في حوزة الأجهزة الأمنية، تشي ربّما بـ«تورُّط» أطراف خارجية - دول وكيانات - في عودة ما تسمّى «ظاهرة الأصوليين»، إذ قال شنقريحة: «نحن على يقين تامّ أن هذا الخروج إلى العلن، بعدما كان يجري في السرّ وفي فضاءات مغلَقة، إنّما جاء بإيعاز من دوائر التخريب المعادية، التي عوّدتنا على مثل هذه التحركات المريبة»، مضيفاً، في إشارة إلى البعد الدولي لتلك الأطراف، أنها تتحرّك «كلّما لاحظوا أن الجزائر قد استرجعت في وقت وجيز دورها كفاعل محوري على الساحتَين الإقليمية والدولية... أطراف تستغل تعلُّق الجزائريين بدينهم الحنيف لتحقيق أغراض سياسية مشبوهة، تندرج من دون شك في إطار مشاريع تخريبية وأجندات أجنبية معادية».
لكن تلك الأسباب كلّها، وحتى ضبط 14 عنصراً إرهابيّاً في عمليات أمنية مختلفة خلال أيام قليلة، لم تقنع عدداً من المراقبين، وخاصّة أولئك المحسوبين على المعارضة، والذين اعتبروا أن خطاب شنقريحة في هذا الوقت بالذات جاء لإلهاء الجزائريين عن القضايا الأهمّ، كونه يأتي في سياق مخالف تماماً لما يعيشه المواطنون، وخاصّة من الناحية الاجتماعية، حيث سُجلّ ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية، فضلاً عن الندرة في بعضها، وتدنّي القدرة الشرائية للجزائريين من أبناء الطبقتَين الوسطى والفقيرة. وعزّز أصحاب هذا الرأي موقفهم، بالنظر أيضاً إلى نجاح النظام إلى حدّ بعيد في إسكات المعارضة، حيث خفتت الأصوات المنتقدة للسياسة العامّة للسلطة، سواء من طرف الأحزاب أو المجتمع المدني من نقابات وغيرها. وحتى الحركتان اللتان صنّفتهما الحكومة إرهابيتَين: «الماك»، و«رشاد»، تمّت السيطرة على تحرّكاتهما، واعتُقل عدد من نشطائهما، ولم يتبقّ سوى تأثير عناصرهما عبر مواقع التواصل الاجتماعي.