أعادت زيارة مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، إلى طرابلس منتصف الشهر الجاري، والتطوّرات التي تلتْها، وصولاً إلى اجتماع «جامعة الدول العربية» التشاوري في العاصمة الليبية (22 الجاري) والجدل المصاحب لظرف انعقاده، ليبيا إلى بؤرة الاهتمام الدولي والإقليمي، ودفعتْها خطوات إلى الأمام في مسارِ تسويةِ أزمتها السياسية وتشابكاتها، وفق رؤية أميركية بدأت تتّضح معالمها أكثر فأكثر. والواقع أن الملفّ الليبي لم يغادر البتّة أدراج الديبلوماسية الأميركية، التي ظلّت معنيّة بشكل أو بآخر بالمدّ والجزر في ما بين الأطراف المتدخّلة في الصراع أو المُسبّبة له، طوال أكثر من عقد من محاصصات وتفاهمات وتصوّرات غير مكتملة (أو مقتصرة على مصالح هذه الأطراف على حساب الطرف الليبي المعنيّ)، كُرّست بالأساس لتهميش الحلول، واستدامة النزاع، واستمراره في استنزاف مقدَّرات الشعب الليبي بصورة أو بأخرى.
زيارة بيرنز: الشيطان في التفاصيل
جاءت زيارة بيرنز، وهي الأولى من نوعها لأحد مديري الاستخبارات الأميركية منذ أكثر من عقد كامل، بعد أسابيع من تسليم سلطات طرابلس، أبو عجيلة محمد مسعود، المشتبَه به في صُنع القنبلة المستخدَمة في تفجير طائرة لوكربي (1988)، وورود تقارير عن تسليم مزيد من المتّهَمين، ومواجهة حكومة عبد الحميد الدبيبة انتقادات محلّية خطيرة على هذه الخلفية، وعزلة إقليمية متزايدة، ولا سيما من قِبَل مصر وعدّة دول عربية (اتّضحت لاحقاً في مقاطعة مصر والسعودية والإمارات اجتماعاً لـ«جامعة الدول العربية» بخصوص ليبيا). وتضمّنت أجندة بيرنز العمل على تطوير التعاون الاقتصادي والأمني بين البلدَين، وتعزيز «حالة الاستقرار والنموّ التي تشهدها ليبيا»، الأمر الذي «يفسح الطريق»، بحسب وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، أمام إجراء الانتخابات. وإلى جانب الملفّ الأمني بالغ التعقيد، فإن كلمة السرّ في الزيارة كانت «الانتخابات»، وتحويل المبادرات المُثارة حولها إلى «خطوات واضحة في وقت وجيز»، بحسب المنقوش، بينما بدا نيد برايس، الناطق باسم الخارجية الأميركية، أكثر وضوحاً بتعليقه على الزيارة بأن واشنطن انخرطت مع القادة الليبيين وشركائهم الإقليميين «لوضع موعد للانتخابات استجابة لرغبة 2.5 مليون ليبي سجّلوا بياناتهم للتصويت في الاقتراع المؤجَّل».
ونظراً إلى طبيعة زيارة بيرنز الحسّاسة والسرّية في آن واحد، فقد تضاربت آراء المراقبين الليبيين حولها بين كوْنها تعبيراً عن استشعار واشنطن تهديدات جسيمة لمصالحها استدعت تدخّلاً فورياً من قِبَلها، وبين عدّها محاولة «في وقتها المناسب» لفكّ عزلة الدبيبة وتعزيز «شرعيّته» (وهي محصّلة صحيحة تكشّفت بعد الزيارة مباشرة). وعلى هذه الخلفيّة، أثيرت مخاوف من مواصلة حكومة طرابلس سياسة تسليم «المتّهَمين الليبيين» لواشنطن، وعلى رأسهم عبد الله السنوسي، مدير المخابرات الليبية الأسبق، المتّهَم بـ«ارتكاب جرائم حرب داخل ليبيا»، والمعروف بأنه «الذراع الأيمن» للرئيس الراحل معمر القذافي، في ما سيُلحق، في حال تَحقّقه، أشدّ الضرر بمصالح أطراف إقليمية، ويحرمها من أوراق هامّة ظلّت تملكها في الملفّ الليبي (وتتلاعب به من خلالها في بعض الأحيان)، وربّما يقود، على نحو أكثر خطورة، إلى كشْف جوانب قد تدين هذه الأطراف (وارتباطاتها داخل ليبيا)، وتعيد فتح ملفّاتٍ سبَق الاتّفاق على طيّها في ظلّ إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.

مخاوف إقليمية: إعادة إطلاق المشروطيات
بعد أقلّ من أسبوع من زيارة بيرنز، وقرار محكمة ليبية (غير نهائي بحسب توضيحات لاحقة) تعليق «اتّفاق استكشاف الطاقة» المُوقَّع عام 2022 بين تركيا وليبيا، جاءت زيارة هاكان فيدان، مدير المخابرات التركية، لطرابلس (قادماً إليها من الخرطوم بعد لقاء مثير للاهتمام مع رئيس «مجلس السيادة» هناك، عبد الفتاح البرهان)، متزامِنةً وتواصُلَ وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، مع الدبيبة، الذي قدّم له تطمينات بسريان الاتّفاقات «كالمعتاد». ولا يمكن فصْل زيارة هاكان للسودان عن محادثاته في طرابلس، وتجديد أنقرة تعبيرها عن رغبتها في تطوير العلاقات مع طرابلس، ودعمها الكامل للجهود السياسية الهادفة إلى حلّ الأزمة الليبية (وصولاً إلى الانتخابات). كما يؤشّر عقْد المسؤول الأمني التركي اجتماعاً رفيع المستوى مع الدبيبة ووزيرة خارجيته ووزير الدولة للشؤون الخارجية ووزير الإعلام والشؤون السياسية، إلى حرص بلاده على تأكيد مساندتها للدبيبة، وإحداث اختراق إقليمي لصالحه من بوّابة السودان.
يبدو من الطبيعي تماماً أن تُعيد واشنطن، وبوضوح تامّ وفظّ للغاية، مساعيها لإحكام قبضتها على الملفّ الليبي


في المقابل، أتت زيارة وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، للقاهرة (22 الجاري)، ومقابلته الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ووزير خارجيته، سامح شكري، وعدداً من المسؤولين في «جامعة الدول العربية» متّسقةً تماماً مع الجهود الأميركية (المدعومة من روما بشكل مفهوم) للضغط على «شركاء ليبيا» الإقليميين، ومعزِّزة للتنسيق الأميركي - الإيطالي التقليدي في الملفّ الليبي. وإذ بدا لافتاً تطرُّق المحادثات الإيطالية - المصرية إلى قضيتَي الطالب الإيطالي جيوليو ريجيني (الذي قُتل في القاهرة عام 2016)، والمصري باتريك جورج زكي - بعد أن كان هذا الملفّ يُتداول بشكل رئيس على المستوى الأمني بين البلدَين -، وإعلان تاياني، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع شكري، استعداد القاهرة «لإزالة العوائق» أمام تسوية القضيتَين المذكورتَين، فإن ذلك يكاد يكون مقترناً بعودة استخدام «رافعة الضغوط» الإيطالية على مصر في الملفّ الليبي، بتأكيد تاياني أن مسألة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا، وجهود وقْف الهجرة غير المنتظمة منها، شكّلت البند الأوّل في محادثاته، إلى جانب الأمن الطاقَوي والتعاون الاقتصادي في البحر المتوسّط.

ليبيا والموقف العربي: تعميق الشروخ
ظلّ الموقف العربي تجاه الأزمة الليبية، منذ آذار 2011، ودعوة أمين عام «جامعة الدول العربية» حينذاك، عمرو موسى، إلى فرْض منطقة حظر جوّي على ليبيا (التي تترأّس منذ أيلول 2022 الدورة الحالية للجامعة)، والتي مهّدت ضمن تفاعلات أخرى لتدخّل «الناتو» في هذا البلد، مُراوحاً مكانه، ما بين مساعي البعض لضمان حصص في الموارد الليبية المنهوبة (كما في حالتَي قطر والإمارات)، واشتغال آخرين على تأمين الوضع الأمني لا سيما في المناطق الحدودية (كما في حالتَي الجزائر ومصر)، وغياب أيّ جهد عربي منسّق لتسوية متكاملة للأزمة. وجسّد الاجتماع التشاوري الأخير لـ«الجامعة»، والذي استضافتْه طرابلس في الـ22 من الجاري وقاطعتْه القاهرة والرياض وأبو ظبي (لم يحضره سوى خمسة وزراء خارجية أبرزهم من دولتَي جوار ليبيا: الجزائر وتونس، فيما اكتفت بقيّة الدول العربية بإرسال مندوبين، وامتنع الأمين العام، أحمد أبو الغيط، عن حضوره بحجّة عدم اكتمال نصاب وزراء الخارجية المشاركين)، استمرار الخلاف العربي حول ليبيا. فمن جهة، يبدو أن الجزائر، وبدرجة أقلّ تونس، قد باتتا على توافق كامل مع حكومة الدبيبة؛ إذ لم يقتصر حضور وزير خارجية الجزائر، رمطان لعمامرة، في طرابلس على اجتماع «الجامعة»، بل عَقد الوزير، على صعيد منفصل، اجتماعاً مهمّاً مع رئيس «المجلس الرئاسي»، محمد المنفي، ركّز على سُبل عقْد الانتخابات المؤجَّلة. ولم يَبدُ ذلك منفصلاً عن تقارب مماثل بين الجزائر وإيطاليا، حيث حلّت رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني، في الجزائر (22 - 23 الجاري) في أولى جولاتها الخارجية الثنائية، بهدفٍ رئيس هو تحقيق تقدّم في ما يُعرف بـ«Mattei Plan»، لتحويل إيطاليا، وجنوبها بشكل خاص، إلى مَنفذ رئيس للطاقة في قلْب المتوسّط ولكامل القارة الأوروبية، بدعم كبير من الجزائر (وليبيا) (علماً أن الزيارة تزامنت مع مرور 30 عاماً على «معاهدة الصداقة» بين البلدَين، المُوقَّعة في 27 كانون الثاني 2003).
هكذا، وبينما مضت الجزائر في مسار الانخراط الكامل مع التوجّه الأميركي - الإيطالي في الشأن الليبي، مع ما يترتّب على ذلك من تكريس للخلافات العربية ذات الصلة، بدت مواقف القاهرة والرياض، إضافة إلى أبو ظبي، متحفّظة للغاية. إذ كثّفت مصر تحديداً، هجومها علانية على حكومة الدبيبة، باعتبار انتهاء «شرعيتها» بعد انتخاب مجلس النوّاب فتحي باشاغا رئيساً للوزراء. لكن، يُتوقّع أن تُراجع القاهرة - في ضوء الموقف الإيطالي تحديداً - مواقفها، وأن تُخفّف من حدّة هجومها على الدبيبة وحكومته، لا سيما أن مسألة عقْد الانتخابات باتت أقرب إلى التحقّق من أيّ وقت مضى. أمّا السعودية، التي استضافت المنفي قبل نحو شهر في الرياض وأجرت معه محادثات رفيعة برئاسة وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، على هامش القمّة العربية - الصينية، والإمارات، التي رعت منذ آذار 2022 محادثات تشاورية بين الدبيبة وخليفة حفتر لتقريب وجهات النظر بينهما، فإن أداءهما يقوم بالأساس - بحسب المعطيات الراهنة - على ترقّب مآلات التطوّرات الدولية (في ليبيا)، وعدم التسرّع في فكّ الارتباط مع مصر (أو تجميده) في هذا الملفّ، على الأقلّ رسمياً.

خلاصة
يبدو من الطبيعي تماماً أن تُعيد واشنطن، وبوضوح تامّ وفظّ للغاية، مساعيها لإحكام قبضتها على الملفّ الليبي في التوقيت الراهن، بينما يَدخل الصراع الروسي - الأوكراني عامه الثاني في شباط المقبل، وتتسارع محاولات إيطاليا لاستعادة دور أوروبي هامّ من بوّابة الأمن الطاقوي المرتكزة إمداداته على الجزائر وليبيا وبدرجة أقلّ مصر، وتنجح حكومة الدبيبة في مناورة أطراف إقليمية بارزة ومقارعتها. وبينما تتزايد حدّة الشقاقات العربية إزاء الملفّ الليبي برمّته، فإن أحاديث الانتخابات في طرابلس، وعلى ألسنة واشنطن وروما والجزائر وأنقرة، تشير بكلّ قوّة وجلاء إلى اقتراب نضوج تسويةٍ ما على الطريقة الأميركية، وتسارُع عملية شدّ أطراف الأزمة، في انتظار لحظة حاسمة تحدَّد فيها مواعيد الانتخابات، وتَقبل الأطراف الممانعة لـ«العملية الأميركية» (داخلياً وإقليمياً) بها، من دون أن يعني ذلك بالضرورة نهاية «سعيدة» للأزمة الليبية، التي تشارف على دخول عامها الثالث عشر بعد أيام قليلة.