بعدما ظنّ كثيرون أن «ملف لوكربي» قد طُوي تماماً، بموجب الاتّفاق الذي وُقّع عام 2008 بين طرابلس وواشنطن، ورُفع بموجبه الحصار الغربي عن الأولى، عادت الأخيرة إلى نبْش أوراق هذا الملفّ، بالتعاون مع حكومة عبد الحميد الدبيبة التي لم تتردّد في تسليم المتّهم الثالث في القضية إلى الأميركيين، بطُرق وُصفت بأنها «غير قانونية». وإذ أثار هذا التطوّر اتهامات للدبيبة بالسعي إلى الحصول على دعم أميركي للبقاء في منصبه ومواجهة غريمه، فتحي باشاغا، فهو طَرح أيضاً تساؤلات عن طبيعة التموضع الاستراتيجي للولايات المتحدة إزاء الملفّ الليبي، وما إذا كانت قد اختارت تعميق تعاونها مع السلطات الحاكمة في الغرب، على رغم التزامها الدفْع نحو توحيد السلطة التنفيذية في البلاد
يتجدّد الجدل في ليبيا حول «قضية لوكربي» بعد تسليم أحد المتَّهمين الثلاثة في القضية، أبو عجيلة مسعود المريمي، للقضاء الأميركي، على خلفية اتّهامه بتصنيع القنبلة التي تسبّبت بانفجار طائرة الرحلة الشهيرة «بان أم 103» الأميركية فوق قرية لوكربي الإسكتلندية في 1 كانون الأول 1988، وراح ضحيّتها 270 شخصاً بينهم 259 راكباً و11 مُواطناً من سكّان القرية. واعترف رئيس «حكومة الوحدة» الليبية، عبد الحميد الدبيبة، بتسليم المريمي، بعد أسابيع من الصمت الرسمي الذي قابله جدل شعبي واسع، إثر رواج أنباء عن «اختطاف» أبو عجيلة من منزله في العاصمة طرابلس منتصف تشرين الثاني الماضي، من قِبَل مجموعات مسلَّحة موالية للدبيبة، ومن ثمّ نقله إلى مدينة مصراتة الساحلية شرقي العاصمة. ومَثَل المريمي، في الـ12 من كانون الأول الحالي، بعد ترحيله إلى الولايات المتحدة، أمام محكمة اتّحادية في واشنطن، حيث تُليت عليه لائحة التّهم المُوجَّهة إليه، في أوّل جلسة له أمام القضاء الأميركي، الذي يبدو أنه سيطلب له عقوبة أقصاها السّجن مدى الحياة.
والمريمي، عميد في جهاز المخابرات الليبية السابق، وهو ثالث المتهمين في هذه القضية، بعد عبد الباسط المقرحي، المسؤول الأمني السابق في الخطوط الجوّية الليبية، والذي أدين رسمياً بتورّطه في الهجوم عام 2001 وحُكم عليه بالسّجن المؤبّد قبل أن يفرَج عنه لاحقاً في عام 2009 بسبب المرض؛ والأمين خليفة فحيمة، وهو مدير محطّة سابق للخطوط الجوّية الليبية في مطار لوقا، وتمّت تبرئته من جميع التّهم، بعد خضوع الإثنين لمسار طويل من المحاكمات في هولندا. وحتى كانون الأول 2020، لم يكن أبو عجيلة يواجه أيّ تهم تتعلّق بـ«لوكربي»، حتى أعلن المدّعي العام الأميركي حينها، وليام بار، اتّهامه بتصنيع القنبلة التي انفجرت بها الطائرة، بناءً على اعترافات حصل عليها محقّقون تابعون لإحدى المجموعات المسلّحة الليبية من المريمي في عام 2012، بعد القبض عليه إثر سقوط نظام الرئيس الراحل، معمر القذافي.
في انتظار ما ستؤول إليه القضية، يزداد المشهد الليبي تعقيداً، وتتعمّق حالة الانقسام السياسي


قبل هذا، بدا للجميع أن فصول القضية قد انتهت تماماً منذ عام 2008، إثر الاتفاق الذي تمّ توقيعه بين طرابلس وواشنطن، والقاضي بإغلاق ملفّها في جانبَيه القضائي والمدني، وحصول عائلات الضحايا على تعويضات مالية، ثمّ بالإفراج عن المقرحي لاحقاً في عام 2009 وعودته إلى طرابلس. وعلى إثْر ذلك، عادت العلاقات إلى طبيعتها بين ليبيا والغرب، ورُفع الحصار الاقتصادي عن الأولى، التي بدت متعاونة بشكلٍ كبير في عدّة ملفّات أخرى من بينها الأسلحة النووية وتمويل منظّمات يتّهمها الغرب بـ«الإرهاب». لكنّ القضية عادت، بعد عشر سنوات من سقوط نظام القذافي، لتثير الجدل من جديد، وتزيد التجاذبات على الساحة الليبية، وتُفاقم تعقيدات الأزمة السياسية التي تتخبّط فيها البلاد الغارقة منذ سنوات في الفوضى والانقسام.
وأثار تسليم المريمي من قِبَل حكومة الدبيبة ردود فعل واسعة، رافضة وغاضبة في معظمها، إذ دان مجلس النواب (المنعقد في مدينة طبرق شرق البلاد) هذه الخطوة، مُطالباً مكتب النائب العام بتوجيه تهم «الخيانة العظمى» إلى كلّ المتورطين فيها، مؤكداً رفضه المسبق لأيّ نتائج قد تترتّب على هذه العملية. بدوره، استنكر «مجلس الدولة» (الاستشاري المنعقد في العاصمة طرابلس) إعادة فتح ملفّ القضية، معتبراً أن ذلك يفتقر إلى أيّ مبرّرات سياسية أو قانونية، متبرّئاً من كلّ ما يترتّب على هذا الإجراء من استحقاقات تجاه الدولة الليبية. أيضاً، أصدر عدد من المنظّمات المدنية والحقوقية والقبائل الليبية بيانات تدين عملية التسليم، وتحذّر من تَبِعاتها المالية والسياسية على ليبيا. كما حذّر مستشار الأمن القومي، المستشار إبراهيم بوشناف، من تلك التبعات، داعياً كلّ من سمّاهم «الوطنيين والكيانات السياسية إلى الاصطفاف معاً لمنع ذلك، بعيداً عن الصراع السياسي»، منبّهاً إلى أن «قضية لوكربي إن أثيرَت من جديد وأصبحت موضوعاً لتحقيق جنائي، فستُدخل ليبيا في عقود من الاستباحة».

الدبيبة وحكومته في مرمى الانتقادات
منذ منتصف تشرين الثاني، تاريخ «اختطاف» المريمي من منزله وسط العاصمة، من قِبَل مجموعة تابعة لحكومة الدبيبة تُسمّى «القوّة المشتركة» مقرّها في مدينة مصراتة، بتعاون مع «جهاز دعم الاستقرار» الذي يقوده غنيوة الككلي، أحد أشهر قادة الميليشيات في طرابلس وأقوى الداعمين لحكومة الدبيبة، التزم هذا الأخير الصمت، ولم يردّ على الاتّهامات المُوجَّهة إليه، كما لم يُجِب حتى على استفسارات عائلة المريمي نفسها. غير أن وزارة العدل في حكومته أصدرت بياناً بعد أيّام، قالت فيه إن ملفّ لوكربي قد «أُقفل بالكامل من الناحية القانونية والسياسية، ولا يمكن إثارته من جديد، ولا يمكن العودة إليه بنصّ الاتفاقية التي أُبرمت بين الدولة الليبية والولايات المتحدة في 14 أغسطس 2008، والذي جرى تعزيزه بموجب الأمر الرئاسي المُوقَّع من الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، الرقم 13477 الصادر في 31 أكتوبر 2008». بيانٌ لم يخفّف من حدّة الاتهامات المُوجَّهة إلى الدبيبة وحكومته، خاصة أن وزيرة خارجيته، نجلاء المنقوش، كانت قد أبدت، في حوار إعلامي سابق، استعداد حكومتها للتعاون من جديد حول القضية، قبل أن تتراجع عن تصريحاتها لاحقاً تحت وطأة الانتقادات التي طاولتها.
ويواجه الدبيبة اتّهامات من قِبَل خصومه (وهم كثيرون على الساحة الليبية)، بالتورّط في تسليم المريمي من أجل الحصول على دعم دولي، خاصة من الولايات المتحدة، للبقاء في منصبه، ومواجهة غريمه، فتحي باشاغا، الذي كان البرلمان منَح حكومته الثقة في آذار الماضي، بعد سحب إيّاها من حكومة الدبيبة منذ أيلول 2021. وفي الثامن من تشرين الثاني الفائت، أي قبل أسبوع فقط من «اختطاف» أبو عجيلة، أفادت وكالة الأنباء الليبية الرسمية بانعقاد لقاء جَمَع الدبيبة بالمبعوث الأميركي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، والقائم بالأعمال الأميركي ليزلي أوردمان، في ديوان رئاسة الوزراء في طرابلس. وعلى رغم أن أيّ مصادر رسمية (ليبية أو أميركية) لم تتحدّث عن تناوُل ملفّ لوكربي في ذلك اللقاء، غير أن نورلاند أكّد لمستشار الأمن القومي الليبي، وفق بيان للمكتب الإعلامي لهذا الأخير، أن «الولايات المتحدة تحترم السيادة الليبية خلال سيْر الإجراءات القانونية». وأيّاً يكن، فإن ما جرى أخيراً طرح تساؤلات عن التموضع الاستراتيجي للولايات إزاء الملفّ الليبي، وموقفها من التعاون مع حكومة الدبيبة التي لا تزال تحظى بـ«الشرعية الدولية» - فضلاً عن أنها هي التي تسيطر على العاصمة وعلى مختلف المؤسّسات الحكومية في البلاد -، على الرغم من التصريحات المحايدة للمسؤولين الأميركيين في ليبيا، والتزامهم الدفْع نحو توحيد السلطة التنفيذية في البلاد.
من جهته، خرج الدبيبة، أخيراً، في كلمة مصوَّرة، ليؤكّد الاتّهامات المُوجَّهة إلى حكومته بتسليم المريمي للولايات المتحدة، مبرّراً ذلك بكون أبو عجيلة، الذي يحمل الجنسيتَين الليبية والتونسية، مطلوباً للإنتربول بتهمة الإرهاب، مطمْئناً في المقابل إلى أنه لن يسمح بفتح ملفّ لوكربي من جديد. لكن كلمة الدبيبة عمّقت حالة الغضب في الشارع الليبي، خاصةً أن رئيس «حكومة الوحدة» ثبّت اتّهامات للمريمي لَمّا يوجّهها إليه القضاء الأميركي نفسه بعد، في انتظار انعقاد جلسة ثانيّة منتظَرة نهاية الشهر الجاري أو بداية كانون الثاني القادم. غير أن الدبيبة تعهّد بتكليف مكتب محاماة للدفاع عن أبو عجيلة في واشنطن، مؤكّداً أن ما سمّاه «التعاون» في هذا الملفّ «تمّ وفق القواعد القانونية المتّبَعة مع المتّهمين في قضايا خارج البلاد، خاصة ذات الطابع الإرهابي».
وفي انتظار ما ستؤول إليه القضية، يزداد المشهد الليبي تعقيداً، وتتعمّق حالة الانقسام السياسي، وسط مساعٍ متوازية، أممية وأخرى محلّية يقودها مجلسا النواب و«الدولة»، لتوحيد السلطة التنفيذية في ليبيا وتهيئة القاعدة الدستورية للانتخابات التي ينتظرها الجميع منذ سنوات، ويرونها السبيل الوحيد لإعادة البلاد إلى سكّة الاستقرار.