تونس | على رغم كثرة الشوائب التي اعترت ولا تزال تعتري المسار الانتخابي التونسي الذي أطلقه الرئيس قيس سعيد، يمضي هذا المسار نحو محطّته الأخيرة المرتقَبة بعد أسبوعَين، وسط شبه غياب للنقاش العام حول استحقاق يُفترَض أن يكون أساسياً، لصالح قضايا إلهاء لا تفتأ تتكاثر. ولعلّ ممّا ساعد سعيد على المُضيّ قُدُماً في خطواته هو الغطاء الأوروبي الذي تَأمّن له خلال «القمّة الفرنكوفونية»، فيما أنبأت مواقف «صندوق النقد الدولي» المُشيدة بحكومة نجلاء بودن هي الأخرى، بغطاء أميركي مماثل، في تطوّرَين جعلا المعارضة شبه مجرّدة ممّا كانت تأمله من ضغط دولي على الرئيس
لا يفصل التونسيين سوى أسبوعين فقط على الانتخابات التشريعية، التي لا تحظى بالاهتمام الإعلامي الكافي والنقاش المطلوب في الفضاء العام خلافاً لسابقاتها، وذلك بسبب الإجراءات التقييدية التي فرضتْها «الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات» على وسائل الإعلام، وصولاً إلى إلغائها دور «الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي والبصري» التي لطالما اضطّلعت بمهمّة الرقابة على الخطاب الإعلامي في زمن الاستحقاقات الانتخابية، بهدف ضمان حدّ أدنى من النزاهة في هذا الخطاب. وإلى جانب تقليص هامش الحوار، يستمرّ مسلسل الإلهاء في التوالي، وآخر حلقاته قضية «التآمر من أجل تبديل هيئة الحُكم»، والتي استأثرت بحيّز كبير من الاهتمام، شاملةً شخصيات سياسية وإعلامية معروفة. وإذ لا يُستبعد ضلوع بعض الواردة أسماؤهم في القائمة في تشكيل تحالفات من أجل إسقاط الرئيس قيس سعيد عبر مهاجمته إعلامياً ولدى السفارات، فإن أسماء أخرى بدت وكأنها حُشرت لإثارة الجدل ليس أكثر، فيما كَشفت القائمة جانباً من صراع الأجنحة داخل نظام الرئيس، حيث ظَهر وكأن مديرة الديوان الرئاسي المُقالة من مهامها، نادية عكاشة، هي الرأس الأوّل المطلوب، وهو ما جعلها تَخرج عن تحفّظها وتهدّد بكشْف «الكثير من الأمور»، علماً أنها اتّهمت سابقاً، بشكل غير مباشر، وزير الداخلية الحالي توفيق شرف الدين، بالسيطرة على سعيد وتضليله. أيضاً، وردت أسماء أخرى قريبة من وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي، النقابي السابق ذي الشعبية الواسعة، ما يعني أن شقّاً آخر من النظام يريد ضرْبه في مقتل ينهي طموحاته السياسية التي بدأت تتعاظم، متجاوِزةً الحدّ الذي تسمح به المنظومة.
في خضمّ ذلك، انشغل الرأي العام، أيضاً، باستدعاء رئيس حركة «النهضة»، راشد الغنوشي، مجدّداً، للتحقيق معه في قضايا تسفير التونسيين للقتال في بؤر التوتّر، حيث دام التحقيق يوماً كاملاً تَقرّر على إثره إبقاء الغنوشي في حالة سراح، وسط تكتّم تامّ على معطيات القضية وتفاصيل الإثباتات المتوفّرة فيها. وبين هذا وذاك، تَهمّش الاستحقاق الانتخابي، وعمّقت هامشيَّته نوعيةُ المرشّحين؛ إذ إن معظم هؤلاء هُم من فئات شعبية، لم يُخفوا طمعهم في أن يحصلوا على نصيب من كعكة الامتيازات النيابية والحصانة، كنوع من «العدالة»، بعد أن استغلّت فئة السياسيين ورجال الأعمال هذه الامتيازات لمدّة عِشرية كاملة. وعلى رغم كثرة الشوائب التي تعتري المسار الانتخابي، يمضي قطار التشريعيات نحو محطّته الأخيرة، في وقت لا تزال فيه «جبهة الخلاص الوطني» المُعارِضة على موقفها الرافض له؛ إذ جدّدت، في آخر ندواتها، دعوتها إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني، وأعادت المطالَبة بحوار من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية، متناسِيةً ما طرأ من تغييرات على وعي التونسيين بعد عقْد من الحُكم الديموقراطي «الشكلاني» الذي أنهك البلاد وأفلسها، وسَنة من الحكم الفردي المطلَق والمرتبِك والبعيد من الحلول الجذرية هو الآخر.
سيواجه سعيد معارضة شرسة من «اتحاد الشغل» بسبب الاتفاق مع «النقد الدولي»


في المقابل، يستفيد سعيد ممّا يبدو أنه تغاضٍ أوروبي عن المسار الانتخابي المعوجّ، مردّه على الأرجح إلى الخشية من اشتعال بؤرة توتّر جديدة في وقت يصبّ فيه الغرب اهتمامه على الحرب في أوكرانيا، والتحسّب لاحتمال أن تَنحو تونس، على منوال جارتها الغربية الجزائر، نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا على حساب صِلاتها بالحلفاء القدامى. وقد عبّر عن ذلك بوضوح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الأخيرة لتونس للمشاركة في «القمّة الفرنكوفونية»، حيث اعتبر أنه من غير المقبول «إعطاء دروس لسعيد في كيفية إدارة البلاد»، مضيفاً أن الرئيس التونسي، وهو «أستاذ القانون الكبير، سيدير الأمور كما يجب»، واصفاً الانتخابات المنتظَرة منتصف الشهر المقبل بأنها «نزيهة، تشارك فيها جميع القوى السياسية التونسية، وتجري بسلمية وهدوء». والظاهر أن هذا التراجع الفرنسي، ومن ورائه الأوروبي، قابلتْه تنازلات قدّمتها إدارة سعيد، مرتبطة بالدرجة الأولى بأن تكون تونس جدار صدّ ضدّ المهاجرين غير النظاميين. وعلى أيّ حال، فإن موقف ماكرون جاء صادماً للقوى السياسية التي اجتهدت في البحث عن تأييد أوروبي أو أميركي ضدّ سعيد، وعلى رأسها حركة «النهضة» التي وصفت حديث الرئيس الفرنسي بأنه «مُعادٍ للديموقراطية وحقوق الإنسان»، وهو ما استتبع إعلان الطيف المعارض إنهاء تعويله على أيّ دعم، لتنحصر خياراته في محاولة استدراج الضغط الأميركي، لعلّه يفلح في التضييق على حكومة سعيد، خاصة لناحية مطالبها المتعلّقة بتمويل الموازنة العامة.
لكن حتى هنا، يبدو أن مساعي المعارضة ستتعثّر أيضاً، في ظلّ إشادة القيادات الإقليمية لـ«صندوق النقد الدولي» بالاتفاق مع حكومة نجلاء بودن، والالتزامات التي تعهّدت بها الأخيرة، بعد تجارب كثيرة منذ عام 2012 وحتى عهد حكومة هشام المشيشي، ماطلت خلالها السلطات التي دعمتْها المعارضة أو كانت جزءاً منها في تطبيق الاتّفاقات، وأساءت التصرّف بالقروض والهِبات، ولم تنفّذ أيّاً من «الإصلاحات» المطلوبة، تلكّؤاً من جانبها من جهة، وخوفاً من الغضب الشعبي من جهة أخرى. أمّا حكومة بودن، فهي قدّمت تنازلات تتعارض تماماً مع الشعارات التي كسب بها سعيد ودّ فئة واسعة من التونسيين، وأبرزها مناهضة خصخصة وبيع المؤسّسات العمومية، وتسريح عمال القطاع العام والوظائف الحكومية. وعلى خلفية ذلك، سيُواجه الرئيس معارضة شرسة من «الاتحاد العام التونسي للشغل»، ومن حركات مدنية متعدّدة طالما وقفت في وجه هذه «الإصلاحات» التي يمليها «النقد الدولي»، في نزال مؤجّل يبدو أنه سيقع في نهاية المطاف، خاصة أن الطبقة الوسطى في البلاد متشكّلة أساساً من فئة الموظفين في القطاع الحكومي والعام، المشمولين بمخطّط إعادة التوظيف والتسريح.