الجزائر | على رغم الابتسامة العريضة التي قابل بها الرئيسان، الجزائري عبد المجيد تبون والفرنسي إيمانويل ماكرون، وسائل الإعلام خلال الندوة المقتضبة التي عقداها، وعلى رغم التقاط ماكرون صورة تذكارية وهو يحمل شريطاً موسيقياً قديماً للشاب حسني (مغني جزائري اغتيل عام 1994) يحمل عنوان «أنا نادم على الأيام»، إلا أن لقاء الرئيسَين لم يقنع السياسيين كما الرأي العام في ضفّتَي المتوسط بأنه تَوّج مصالحة جبَّت ما قبلها، بخاصة أنه لم يحمل لا اعترافاً فرنسياً بالجرائم الاستعمارية، ولا اتفاقيات اقتصادية ملموسة، ليفتتح بذلك مرحلة أخرى من مراحل المدّ والجزر التي طَبعت العلاقات الجزائرية - الفرنسية منذ أزيد من ستّين سنة. وكان قدِم ماكرون إلى الجزائر في زيارة هي الأولى منذ انتخاب تبون رئيساً، رفقةَ وفد هامّ مكوّن من 90 شخصاً منهم 7 وزراء. وجاءت هذه الخطوة في ظلّ تداعيات أزمة عام 2021 التي شهدت تشنّجاً في العلاقات، بفعل تشكيك ماكرون في وجود أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وتقليص التأشيرات الممنوحة للجزائريين بمَن فيهم المسؤولون، وما تلاه من ردود أفعال منها سحب الجزائر سفيرها من باريس.وناقش الجانبان، في خلال الزيارة، عدداً من الملفّات من بينها: الذاكرة، والتأشيرات الممنوحة للجزائريين، والنزاعات في دول الساحل، لكن النتائج لم ترقَ إلى تطلّعات المتابعين، لناحية تطوير العلاقات الثنائية أو حتى إعادتها إلى ما كانت عليه قبل أزمة 2021، ولذلك أسباب بعضها منطقية وأخرى تُمليها الظروف المحلية والعالمية. ومن بين الملفّات التي كان يُنتظر أن تُمنح أهمية قصوى ملفّ الذاكرة، في ظلّ رغبة ماكرون في تجاوز الماضي الاستعماري من دون اعتراف بالجرائم المرتكَبة، تحت شعار أن الجيل الحالي لا علاقة له بالحرب التي وقعت ولا بمخلّفاتها، في مقابل مطالبة الجزائر بالاعتذار الرسمي، كأقلّ خطوة في سبيل تحسين العلاقات. وفي الندوة الصحافية التي عقدها ماكرون بعد زيارته المقبرة الأوروبية في الجزائر العاصمة، قال: «أنا أريد الحقيقة والاعتراف وإلا فلن نتقدّم أبداً، أنا لست ابن حرب الجزائر ولا عائلتي... لا بدّ أن نرى هذا التاريخ بشجاعة». كما أقحم دولاً أخرى في الملفّ المفترض أن يكون شأناً خاصاً بالجزائر وفرنسا، معتبراً أن «استعادة الثقة بين فرنسا وبين الدول الأفريقية ضروري رغم تدخّل شبكات مدفوعة من تركيا وروسيا والصين». ومع هذا، بدا أن معالجة قضايا الذاكرة لم تكن من أولويات الرئيس الفرنسي، كون ما انبثق من النقاش لم يتعدّ تشكيل لجنة مشتركة مكوَّنة من ستة إلى سبعة مؤرّخين «غير مسيّسين» بحسب تصريح ماكرون، يُفتح لهم كلّ الأرشيف الذي يملكه الجانبان من 1830 إلى نهاية الحرب، لتدارُس نقاط التقارب ونقاط الاختلاف، على أن يجري تقديم النتائج، وفق الرئيس الجزائري، «خلال سنة أو أقل».
أهم ما حملته الزيارة، بحسب مراقبين، هو الاجتماع الأمني الذي ضم تبون وماكرون


وحول التأشيرات الممنوحة للجزائريين، والتي قلّصت فرنسا نسبتها إلى 50% قبل أشهر، بحجّة «عدم تعاون قصر المرادية مع فرنسا في قضية المهاجرين غير القانونيين»، فقد قدّم ماكرون بعض الوعود، ولكنها توقّفت عند سقف «تسهيل منح التأشيرة لبعض الفئات، كالسياسيين والفنانين والممثلين وغيرها»، بالتالي الإبقاء على سياسة منح التأشيرة انتقائياً، على عكس ما كانت عليه الحال قبل جائحة «كورونا». أمّا بخصوص ملفّ الغاز، الذي اعتبرته وسائل الإعلام الفرنسية الهدف الأوّل من الزيارة، فقد أوضح ماكرون أن اعتماد فرنسا على الغاز لا يتعدّى 20% من حاجتها من الطاقة، وأن الجزائر لا تمثّل سوى 8 إلى 9% من إيرادات الأولى من هذه المادة، وعليه فإن الغاز الجزائري لا يغيّر التوازن.
وبالمجمل، تَمخّض عن الزيارة توقيع خمس اتفاقيات للتعاون والشراكة، إضافة إلى توقيع الرئيسَين على «إعلان الجزائر من أجل شراكة متجدّدة» بين البلدَين.
على أن أهمّ ما حملته الزيارة، بحسب مراقبين، هو الاجتماع الأمني الذي ضمّ تبون وماكرون، بحضور مسؤولي المؤسّسات الأمنية في البلدين. وعلى رغم عدم الكشف عن فحوى الاجتماع، فإنه يأتي في وقت يحاول النظام الجزائري التحكُّم في أبرز وجوه المعارضة الموجودة في الخارج، ومن أهمّها الناشط والمدون أمير ديزاد، وحركة «رشاد» ذات التوجّه الإسلامي، وحركة «الماك» التي تدعو إلى انفصال منطقة القبائل عن الجزائر، وكلتاهما يوجد كثير من أعضائها في فرنسا.
وفي تقييمه للزيارة، يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي ناصر الدين جابي، أنه «لا ينتظر تحسُّن العلاقات بين الجزائر وفرنسا، على الأقلّ ليس قريباً»، معتبراً، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «الاتفاقيات المُوقَّعة لم تأتِ بالجديد، كونها مجرّد نسخ من اتفاقيات سابقة، ومن ذلك تلك المرتبطة بملفّ الذاكرة... وملف المفقودين». وإذ يلفت جابي إلى أن «لفرنسا لوبيات قوية تاريخياً يمكن أن تُدافع عنها على رغم ما تَبيّن من ضعف التنافسية لدى الطرف الفرنسي الذي لم يَعُد قادراً على مواجهة الفاعلين الاقتصاديين الحاضرين في السوق الجزائرية»، فهو يرى أن اهتمام فرنسا بملفّ الشباب مبرَّر، «في ظلّ الخيارات اللغوية التي انطلقت الجزائر في تبنّيها، بالعمل على تشجيع اللغة الإنكليزية بدل الفرنسية التي تعيش حالة انحسار في نفوذها وقوتها كقوّة استعمارية قديمة، في كلّ أفريقيا وليس الجزائر فقط».
أمّا على مقلب الأحزاب الجزائرية، فلم يكن للزيارة أيّ صدًى إيجابي، حيث رأى الحزب الإسلامي الأول في البلاد، «حركة مجتمع السلم»، أن زيارة ماكرون «كلّها شر»، بعدما نجحت باريس في الحصول على ما تريده من دون الإضرار بمصالحها. واعتبر رئيس «حمس» عبد الرزاق مقري، أن «إمضاء الرئيس الجزائري على البنود المتعلّقة بالذاكرة بالصيغة التي وردت بها هو إقرار بأن مسائل الذاكرة ليست يقينية بالنسبة للجزائر وأنها قابلة للنقاش، وهذا التوجّه هو توجّه فرنسي معلَن عنه قبل الزيارة»، الأمر الذي يعني برأيه خضوع الجزائر للإرادة الفرنسية.