تونس | خرج وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أخيراً ليتعهّد بالعمل بكلّ الطرق من أجل «إعادة الديموقراطية» إلى تونس، بما يشمل بالطبع تعويم أصدقاء واشنطن، وعلى رأسهم حركة «النهضة»، التي لم توقف الولايات المتحدة دعمها للحكومات التي نصّبتها أو شاركت فيها على امتداد العشرية الماضية، على رغم كلّ مؤشّرات استفحال الفساد السياسي في البلاد، والتي كشفتها منظّمات تموّلها السفارة الأميركية نفسها في تونس.إذ لم تكن واشنطن لتستغني عن «حليف» يمكّنها من إبقاء رقابتها مسلّطة على الحوارات الليبية - الليبية، ويفتح لها بوّابة باتجاه الجار الجزائري بسهولة. أمّا اليوم، فلا يبدو قيس سعيد، إلى الآن، ورقة تمكن المراهنة عليها، لا لرفضه الاستجابة لتوصيات السفارة الأميركية بحذافيرها، وإنّما أيضاً لقربه من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي يُظهر حالياً انزياحاً إلى روسيا؛ ولصياغته رؤية خاصة به في ما يتعلّق بالملفّ الليبي؛ فضلاً عن علاقة الصداقة التي تجمعه بالقيادة الإيرانية، على رغم أن تلك المحدّدات لا تَظهر مندرجة في إطار استراتيجية واضحة المعالم، بقدْر ما لا تزال تكتيكات ارتجالية غامضة.
والظاهر أن مبالغة سعيد في اعتماد خطاب السيادة الوطنية، ورفضه التدخّل الأجنبي في القرار التونسي، وما تسرّب عنه عبر مديرة ديوانه السابقة نادية عكاشة، من رغبة محمومة في طرد السفير الأميركي السابق من البلاد لولا أن أوقفه مستشاروه، كلّها مؤشّرات أفهمت واشنطن بأن الرئيس لن يكون سهل المِراس تجاهها. ومن هنا، اتخذت قرارها بإنهاء «مهلة السماح» التي كانت منحته إياها، وعادت إلى تصعيد خطابها في وجهه، في ظلّ حديث بدأ يسري في تونس عن احتمال تدبير انقلاب داخلي على سعيد، عبر القيادات الأمنية التي كانت اخترقتها «النهضة» خلال تولّيها مسؤولية وزارة الداخلية أكثر من مرّة. ولعلّ ما عزّز تلك التقديرات هو رد فعل الحركة على التصريحات الأميركية، حيث دعت بعض قياداتها الجيش التونسي إلى أخذ زمام المبادرة، بالاستفادة ممّا عدّته «ضوءاً أخضر» أميركياً، علماً أن «النهضة» كانت بذلت جهوداً كبيرة، عبر مجموعات الضغط في واشنطن، من أجل تعديل موقف الإدارة الأميركية ممّا يجري في تونس. وإذ تستبطن تلك الدعوة خطورة كبيرة، كونها تعني الحضّ على الصدام بين المؤسّسة العسكرية والقوى المدنية أو حتى المؤسّسة الأمنية، فقد بدا «الاتحاد العام التونسي للشغل» متنبّهاً إلى هذه الخطورة؛ إذ اتّهم «النهضة» وحلفاءها بالرغبة المحمومة في العودة إلى الحُكم وإن كان على ظهر دبابة أميركية ومقابل خراب واسع للبلاد، واصفاً تصريحات أوستن بـ«التهديد الصريح والواضح للتونسيين». وحتى المعارضة الوسطية الاجتماعية لم تحتفِ بالتصريحات الأميركية، بل اعتبرتها مؤشّراً إلى حراك خفي لبعض الأطراف الداخلية بهدف استدراج تدخّل أميركي، وطالبت سعيد في الوقت نفسه بإدخال إصلاحات سياسية. وبالتوازي مع ذلك، جاءت مكالمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره التونسي، لتنبئ بتوسّع جبهة الضغط الخارجية على الأخير، عبر مطالبته بالإصلاح في مقابل تقديم ضمانات لصالح تونس في مفاوضاتها مع «صندوق النقد الدولي».
أمّا داخلياً، فقد أحدث قرار المحكمة الإدارية إيقاف تنفيذ قرارات إعفاء 45 قاضياً من بين 57، جدلاً واسعاً. إذ اعتبر مناصرو سعيد أن المحكمة تعاكس جهود الإصلاح؛ باعتبار أن جزءاً من هؤلاء القضاة مشتبه فيهم في قضايا فساد ورشوة، فيما دافع عنها المعارضون بأنها «المعقل الأخير للديموقراطية والمؤسّسات غير الخاضعة لتعليمات سعيد». وإذ يُطرح تساؤل عمّا إذا كان هذا القرار سيشكّل بوابة لسعيد للخروج من مأزق إعفاء القضاة، أم أنه سيمضي في تصعيد خطواته تجاه الأخيرين، فإن ما جرى يُظهر ضعفاً كبيراً في منظومة الرئيس ومستشاريه ووزرائه؛ بالنظر إلى أن سند إبطال قراراته كان في أغلب الحالات غياب ملفّ فساد واقتصار الأمر على شبهة أو تقارير أمنية، وهو ما يسهّل عملية إلغائها.