تونس | لم يحسم الاستفتاء الدستوري الانقسام السياسي الحاصل في تونس منذ سنة؛ فعِوض أن يكون هذا الاستحقاق امتحاناً للقوى السياسية في شأن مدى قبول الشارع بأطروحاتها وما يمثل ذلك من امتثال للإرادة الشعبية، تَواصل الانقسام على الأسس نفسها التي بُني عليها منذ سنة: داعمون للرئيس قيس سعيد ومشروعه ضدّ عودة منظومة حُكم حركة «النهضة» وحلفائها التي أطاح بها سعيد في 25 تموز 2021؛ ومعارضون يعتبرون أن الرئيس انقلب على الدستور، وأن كلّ قراراته خارجة عن الشرعية، بما فيها الاستفتاء الذي شارك فيه الناخبون بنسبة تُعتبر الأضعف منذ الثورة إلى اليوم. على أن قبول الناخبين للدستور من عدمه، لم يكن هو الحدث المستجدّ يوم الاقتراع؛ إذ كان هذا من المسلّمات لدى المعارضين والمؤيّدين على السواء، بل إن الجدل تَركّز حول نسب المشاركة، والتي لم تتجاوز 27 في المئة من الجسم الانتخابي.ويَعتبر المؤيّدون، وعلى رأسهم سعيد نفسه، أن الشعب قد صدع بموقفه في هذا الاستحقاق، مستدلّين بنسبة 90 في المئة التي أيّدت الدستور من مجموع الأصوات المصرَّح بها، في حين يتمسّك المعارضون بأن المشاركة الضعيفة في الاستفتاء دليل على أن رئيس الجمهورية لم يقنع الناخبين بالمشاركة، وأن غياب حوالى 7 ملايين ناخب تونسي عن الاستحقاق الدستوري يعبّر عن تلك الحقيقة. بالنتيجة، كلّ فريق يقرأ الأرقام من الزاوية التي تناسبه وتعزّز دفاعه عن موقفه، لكن مَن يطَلع على أرقام وإحصائيات واستطلاعات للرأي بخصوص النتائج (وهي بيانات غير نهائية) يدرك أن الأمور ليست بهذه القطعية، ولا تخضع لمنطق «إمّا أبيض وإمّا أسود»، بل يجب تنسيبها وقراءتها بهدوء حتى يُفهم الواقع بأكثر ما يمكن من الموضوعية، وبعيداً من الاستقطاب الثنائي والردود الانفعالية.
من جهة، تُعتبر نسبة المشاركة في الاستفتاء الأضعف منذ الثورة، بخاصة إذا ما وُضع في الاعتبار أن نسب الإقبال في الانتخابات التأسيسية عام 2011 تجاوزت الـ54 في المئة، في حين سجّلت تونس أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2014 بحوالى 63 في المئة. كما أن الاستفتاء على دستور جديد وما يمثّله من تأثير على شكل الدولة ومستقبلها ومصير المجتمع والأجيال القادمة، يستوجب مشاركة واسعة من غالبية الناخبين المسجَّلين في قوائم الانتخابات، وإلّا فإن نسب الاقتراع الضعيفة تضع مشروعية هذا النص على المحكّ، وتَفتح الأبواب أمام الطعن فيها.
لا تزال المعارضة في حالة إنكار للواقع الذي أفرزته صناديق الاقتراع


لكن المعارضة تصرّ على اعتماد حجّة ضعف الإقبال كمنطلق وحيد لضرب مشروعية الدستور الجديد ومن ورائه سعيد، وهذا يجانب الواقع، على رغم وجاهة الاستدلال بهشاشة المشاركة. ذلك أن الاستحقاق أظهر، من جهة أخرى، أن سعيد يتمتّع بدعم شعبي ورصيد انتخابي محترَم مقارنةً ببقيّة خصومه السياسيين، وما قبول حوالى 2.5 مليون تونسي بدستوره إلا قبول بالرجل وما يمثّله من رمز للقطع مع الماضي، بخاصة إذا ما أُخذ في الاعتبار أن غالبية الناخبين صوّتوا لفائدة سعيد حتى من دون الاطلاع على مشروع الدستور. ومن هنا، نجح رئيس الجمهورية في اختبار الشعبية في تونس، باعتباره يتصدّر الاستطلاعات وفق مؤسّسات سبر الآراء، وها هو اليوم يؤكد تصدّره عن طريق الاستفتاء، ومَن يعرف المشهد السياسي التونسي يدرك جيّداً أنه لا أحد من الطبقة السياسية يحظى بالتأييد الشعبي الذي يحوزه أو حتى نصفه، ولو تمّ تنظيم انتخابات رئاسية وفق ما تطالب به المعارضة، فإن سعيد قد يفوز بها من دون الحاجة إلى المرور إلى الدور الثاني للحسم.
في المقابل، لا تزال المعارضة في حالة إنكار للواقع الذي أفرزته صناديق الاقتراع، وهو واقع لا يختلف كثيراً عن توقّعات شركات سبر الآراء أو المزاج الشعبي الذي أراد القطع مع منظومة حُكم «النهضة» وما خلّفته من تراجع سياسي واقتصادي واجتماعي. كما أن دعوة المعارضين إلى تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة قد تندرج في حالة النكران المذكورة أعلاه؛ ذلك أن سعيد اليوم قادر على الفوز في أيّ استحقاق انتخابي، ليس لقوة شعبيته، بل لضعف خصومه على تعدّدهم. أمّا الناخبون الذين لم يقترعوا أول من أمس (حوالى 7 ملايين)، سواء بسبب مقاطعتهم للمسار أو عزوفهم عن المشاركة السياسية أو حتى اهتمامهم بالاصطياف الموسمي، فإن جزءاً لا يستهان به منهم ليسوا من أنصار المعارضة، ولا تملك الأحزاب القدرة على تعبئتهم لفائدة مشروعها، باعتبار عدم اهتمامهم بالحياة السياسية أو خيبتهم من الطبقة السياسية برمّتها. بالنتيجة، لم يكن الاستفتاء على نصّ الدستور الذي لم يطّلع عليه معظم الناخبين، بل وفق منطق واحد: مع قيس سعيد أو ضدّه، وإذا كنتَ ضدّه فإنك تسمح بعودة منظومة الحُكم السابقة، وهذا لعلّه السبب الرئيس الذي رجّح كفّة سعيد.