تونس | رفع "الاتحاد العام التونسي للشغل" "الفيتو" في وجه الرئيس قيس سعيّد، على خلفيّة عزوفه عن المشاركة في الحوار الوطني المزمع إجراؤه، وإنْ ترك الباب موارباً لتفاهمات مستقبلية، عبر إشارة أمينه العام، نور الدين الطبوبي، إلى أنه يرفض الحوار بصيغته المقترحة. يُفهم ممّا تقدَّم، أن المنظمة التونسية العريقة إنّما تسعى إلى الضغط على سعيد من أجل طرح تصوّر مغاير يضمن مشاركة طيف واسع من الأطراف في الحوار، ما يعني أن احتمال مشاركة الاتحاد لا يزال قائماً، متى توصّل الرئيس التونسي إلى صيغة ترضي الأخير. وذكرت جريدة "الشعب" الناطقة باسم المنظّمة، أن سعيد عبّر، خلال لقائه الطبوبي، مساء الأحد، عن تمسُّكه بالحوار وفق الصيغة التي اقترحها، أي إقصاء الأحزاب السياسية، المؤيدة منها والمعارضة، فضلاً عن استبعاد منظّمات مدنية على غرار نقابة الصحافيين. ولم ينجح سعيد في إقناع الأمين العام برؤيته، فيما أخفق الأخير في مسعاه لإعادة الرئيس إلى دائرة التشاركية. وخاضت المنظّمة نقاشاً عميقاً تلا اللقاء الذي جمع الرجلَين، على مستوى الهياكل الإدارية التنفيذية، والتي أجمعت على وجوب أن لا يصطفّ الاتحاد مع الرئيس ولا مع معارضيه، وأن يصرّ على موقفه بإجراء حوار تشاركي، يكون للمنظّمة فيه دور مفصليّ وحاسم في فضّ النزاعات. ويبدو أن هذه النقطة تمثّل ركيزة مهمّة لموقف الاتحاد؛ فالحوار، في شكله الحالي، يقتضي أن يجري تمثيلها بعضو في اللجنة الاستشارية الاقتصادية والاجتماعية، جنباً إلى جنب ممثّل "منظمة أصحاب الأعمال" و"منظمة الفلاحين"، ما يعني أن لا رأي راجحاً لها ولا قوّة اقتراح.ولم يَعهد الاتحاد أن يُختزل في هذا الدور؛ فهو الذي كان متحكّماً وله رأي وازن في حوار عام 2014، ونجح، برفقة المنظّمات الثلاث الراعية للحوار الوطني، في فرض دور تحكيمي وفضّ النزاعات بين الأحزاب السياسية، في وقت عاشت فيه البلاد أحلك أزماتها. وحتى بعد انتهاء الحوار الوطني، كان للمنظّمة دور مهمّ في صياغة "وثيقة قرطاج" التي سنّها الرئيس التونسي الراحل، الباجي قائد السبسي، لتكون مرجعيّة للمتحالفين في الحكم ("نداء تونس" و"النهضة" و"آفاق" وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى).
قال الطبوبي إن "اتحاد الشغل" لن يكون "طابوراً خامساً" لدى أيّ طرف


على أيّ حال، لا يمكن سعيد أن يطمح إلى عزل "الاتحاد العام التونسي للشغل" وإعادته إلى مقعد المتفرّج، وهو ما عبّر عنه الطبوبي خلال لقائه نقابيّي التربية والتعليم، قائلاً إنه "لا يمكن أن تكون المنظّمة طابوراً خامساً لدى أيّ طرف". وفي الوقت ذاته، لم يصعّد الاتحاد بما يمكن أن يؤدي إلى قطْع حبل الودّ نهائياً مع الرئيس، بل كان خطابه ليّناً، إذ دعاه إلى التنازل عن تصوّره وتعديله من أجل مشاركة أوسع، مشدّداً، في الآن نفسه، على أنه لا يدافع عن منظومة ما قبل 25 تموز، وأنه ما زال يعتبرها السبب المباشر للخراب وانهيار البلاد. ولأن تونس تعوّدت، منذ الثورة، أن تعيش على وقْع استقطاب ثنائي، فإن الثنائية الوليدة بين أنصار المنظومة القديمة ("النهضة" وشركاؤها)، و"الجمهورية الثالثة" (قيس سعيد ومناصروه)، لا تخلو هي الأخرى من استقطاب ظاهري، فيما يعمل الطرفان على التأسيس لديموقراطية شكليّة طيّعة لن تتقدّم بالبلاد خطوة واحدة إلى الأمام. من هنا، استقى الاتحاد درسه، معتبراً أنه لن يدخل في صراع بين "رجعيّتَين". وإن لم ينل لقب "الصادقين" الذين تحدّث عنهم سعيد مراراً، فهو لا يرغب في أن ينال لقب المدافع عن "ديموقراطية الإخوان" الشكليّة أيضاً.
لن يتواصل مسار سعيد لوضْع دستور جديد وإقامة حوار وطني يجمع مناصريه الذين يتضاءل عددهم يوماً بعد يوم. وحتى مَن لا يزال يعوّل على ما يتمتّع به سعيد من نزاهة وصدق، فيواجه، اليوم، ضغطاً هائلاً من المحيط الخارجي، ليتخلّى عن القافلة في منتصف الطريق. ومن هؤلاء عميد المحامين إبراهيم بودربالة، الذي تُمارس عليه ضغوط كبيرة من محامي "النهضة" وحلفائها، وصلت إلى حدّ توقيع 63 محامياً - أغلبهم من قيادات الصفّ الأوّل في "النهضة" على غرار سمير ديلو، ونائبة رئيس مجلس شورى الحركة سناء المرسني، وعضو المكتب التنفيذي للحزب فريدة العبيدي، وغيرهم - على بيان يدعو العميد إلى "النأي بالمحاماة عن العمل السياسي والتزام الحياد". أمّا "الرابطة التونسية لحقوق الإنسان"، فتعيش، بدورها، مخاضاً عسيراً بين قيادة مسانِدة لقيس سعيد تعتقد أن مشاركتها ستسمح بجرّ الرئيس نحو مربّع احترام الحقوق والحريات وتعديل خياراته، وبين «شباب المنظمة» الذي بات يهدّد بالاستقالة الجماعية كونه يعتقد أن لا مكان للرابطة في أيّ حلف تكون فيه السلطة.
وفي ضوء هذه التعقيدات، يرجّح مراقبو الشأن السياسي التونسي أن يقدِم سعيد، خلال الساعات المقبلة، على مراجعة خياراته، ولا سيما بعد لقائه ممثّلي الأحزاب السياسية المناصرة له، والتي أكد لها أنه لم يقصد الأحزاب، وأن أعمال اللجان ستكون مفتوحة أمام "الصادقين" ممَّن يؤمنون بوجوب القطع مع منظومة "الأحزاب الفاسدة"، أي تلك التي حكمت خلال العشرية الماضية. ويشير هؤلاء إلى أن سعيد مجبر ومضطر للقيام ببعض التعديلات، ليس رغبةً في التشاركية والاختلاف في حدّ ذاته، وإنّما لأنه يراهن على هذه المحطّة من أجل التغيير الجذري الذي يتحدّث عنه أوّلاً، وحتى لا تجد القوى الإقليمية منفذاً جديداً لانتقاده والتضييق على قدرة البلاد على الاقتراض إذا ما كان الاستفتاء محلّ إخفاق، ورافقه عزوف عن التصويت ورفض لمقترحات سعيد.