تونس | على رغم مرور حوالى تسعة أشهر على قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 25 تموز الماضي، لا تزال الساحة السياسية خالية من أيّ مشروع بديل، قادر على جمع التونسيين، فيما المبادرات المطروحة إلى الآن لا تكاد تقارع شعبويّة سعيد إلّا بشعبويات أكثر خطورة منها. ولعلّ أوضح نموذج من ذلك هو مبادرة «مواطنون ضدّ الانقلاب»، والتي قادتها أسماء عُرفت بانتهازيتها السياسية أو قيادات حزبية شغلت مناصب في الحُكم لسنوات وتتحمّل حصّتها من المسؤولية عن تردّي الوضعَين الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما كان كفيلاً بإفشالها وحجب ثقة الشارع التونسي عنها. ومع يأس منظومة حُكم ما قبل 25 تموز من إمكانية استعطاف الرأي العام عبر الوجوه نفسها التي تتصدّرها والخطاب الذي تسوّق له، بدأت حركة «النهضة»، قائدة «مواطنون ضدّ الانقلاب»، العمل على خطّة بديلة، عنوانها تشتيت سعيد بتعدّد المبادرات وإن كانت ضعيفة، ومحاولة خلق تكتّلات حولها على أمل أن تستخدمها كأداة مواجهة إبّان الاستفتاء المنتَظر تنظيمه آخر السنة حول الإصلاحات السياسية والدستورية. ومن هنا، جاء دعم الحركة للمبادرة الجديدة التي أطلقها المعارضون الإصلاحيون، وسُمّيت مبادرة «الخلاص الوطني».ومنذ تاريخ التدابير الاستثنائية، انقسمت المعارضة إلى فريقَين: الأوّل سار وفق نهجه الخاص بعيداً عن «النهضة» وحلفائها، ملتقطاً رسالة التونسيين الذين أحرقوا مقرّات الحركة الصيف الماضي، وكانوا على استعداد لمواصلة الحراك من أجل إزاحتها. ولذا، رفض هذا الفريق الجلوس مع «النهضة»، تفادياً لأن يسهم ذلك في تبرئتها من إرث السنوات الماضية بما حملته من تدهور اقتصادي وتراجع للمؤسسات الديموقراطية واغتيالات سياسية وتساهل مع الإرهاب وغيرها، مفضّلاً النضال بمفرده ضدّ سعيد، وهو ما يجعله وفق استطلاعات الرأي المحلّية، الأكثر مصداقية لدى التونسيين. أمّا الفئة الثانية، فعلى شاكلة «مواطنون ضدّ الانقلاب» التي فشلت وتراجعت لتترك مكانها لـ«جبهة الخلاص الوطني»، وهي جمعت مَن يتمحور خلافهم مع سعيد حول إزاحتهم من الحُكم، وتجريدهم من منظومة الامتيازات والحصانة التي كانوا يتمتّعون بها. المفارقة أن هذه الجبهة يتصدّرها اليوم، السياسيّ أحمد نجيب الشابي، الذي تقهقر حضوره من سبعة وعشرين مقعداً في المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، إلى ثلاثة نواب فقط في عام 2014، سرعان ما انفضّوا عنه أيضاً ليشكّلوا حزباً هجيناً، قبل أن يتبقّى له نائب وحيد في عام 2019. وبفعل تتالي تلك الهزائم، خرج الشابي ليعلن اعتزاله السياسة، لكنه يعود الآن بتحالفات حتى مع خصومه وأعدائه، فيما حزبه «الديموقراطي التقدّمي»، ثمّ «الجمهوري» لاحقاً، وضع خطّ تمايز بينه وبين مؤسِّسه، وتبرّأ من تحالفاته غير المبرَّرة بالنسبة إليه. وتتلخّص مبادرة الشابي في الدعوة إلى حوار وطني «لا يقصي أحداً»، تنحصر مهامه في وضع إصلاحات اقتصادية تنفّذها حكومة جديدة تُطلَق عليها تسمية «حكومة الإنقاذ»، بالتوازي مع البدء بإصلاحات سياسية تتعلّق بتعديل الدستور وعودة البرلمان المنحلّ إلى عمله، حتى يصادق على الحكومة الجديدة والتعديلات الدستورية المقرَّرة في إطار الحوار الوطني. وتقع على عاتق المعارضة، وفق بيان المبادرة، إنضاج الشروط اللازمة لعقد هذا الحوار وتنفيذ مخرجاته، ما يعني، بشكل أو بآخر، محاولة إقصاء سعيد من أيّ دور تقريري، الأمر الذي سيرفضه الأخير حتماً.
وكان سعيد استبق المبادرة الأخيرة، باتّخاذ خطوة خطيرة استند فيها، كدأْبه دائماً، إلى نقاط ضعف المعارضة وهشاشة الثقة التي يمحضها إيّاها التونسيون، معلِناً حلّ «الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات». واستغلّ سعيد في ذلك ما يحوم حول رئيس الهيئة من شبهات مساومات مع أطراف المنظومة الحاكمة، كانت كفيلة بتهشيم حياديتها إلى درجة جعلت حلّها، على كارثيّته، مقبولاً لدى كثيرين، من بينهم رؤساء وأعضاء سابقون لها أقرّوا بمرارة بأنه لا يمكن لها المواصلة بعد تتالي الفضائح حولها. لكن سعيد أحلّ مكان الهيئة كياناً هجيناً لمراقبة العملية الانتخابية، متعهّداً لفظياً بضمان استقلاليّته، وهو ما لا يمكن الاتّكال عليه في ظلّ مخاطر إلحاقه برئاسة الجمهورية، والتدخّل في عمله وفي العملية الانتخابية برمّتها، مع ما يعنيه ذلك من شكوك في نزاهتها.