تونس | معركة مؤجّلة منذ 25 تموز الماضي، انطلقت بين الرئيس التونسي، قيس سعيد، والمجلس الأعلى للقضاء، بعد مدّ وجزر في العلاقة استمرّ أشهراً. اختار سعيد تاريخ 6 شباط، الذي يصادف الذكرى التاسعة لاغتيال المعارِض اليساري شكري بلعيد، لإطلاق الفصل الأخير من المواجهة، عبر إعلانه أن "المجلس الأعلى للقضاء أصبح من الماضي". كذلك، كشف سعيد، خلال لقائه رئيسة الحكومة نجلاء بودن، أن "مشروع حلّ المجلس بات جاهزاً وستتمّ مناقشته". وطمأن إلى أنه لن يتدخّل في القضاء "أبداً"، وأنه "لا يريد جمع السلطات بين يديه، بل أن يكون هناك دستور نابع من الإرادة الشعبية".هذا التصريح أثار انتقادات واسعة في أوساط الهياكل القضائية والأحزاب وقوى المجتمع المدني، والتي أجمعت على رفض قرار سعيد، باعتبار "الأعلى للقضاء" إحدى أهمّ ضمانات استقلال هذه السلطة، وحاجزاً أمام تدخُّل السلطة التنفيذية فيه. وفي هذا الإطار، أكد رئيس المجلس، يوسف بوزاخر، وجود "عملية افتكاك واستيلاء على المجلس الأعلى للقضاء في غياب أيّ نص قانوني أو تشريعي، وهو ما نعتبره سياسة فرض الأمر الواقع، في ظلّ غياب المعلومة وبعد إقدام أعوان وزارة الداخلية على الاستيلاء على مفاتيح مقرّ المجلس". كما أكد بوزاخر أن "الأعلى للقضاء" سيجابه "عملية الاستيلاء" المذكورة بالوسائل القانونية الممكنة.
وفي الاتجاه نفسه، أصدرت "جمعية القضاة التونسيين" بياناً رفضت فيه إعلان سعيد، بعد حملات تجييش ممنهجة لأشهر طويلة ضدّ عموم القضاة، معتبرة أن "حلّ المجلس الأعلى للقضاء بصفته مؤسّسة دستورية مستقلّة تسهر على حُسن سير القضاء وتضْمن مبدأ الفصل بين السلطات، يشكّل تدخُّلاً مباشراً في السلطة القضائية، وتقويضاً لنظام الفصل بين السلطات". ودعت الجمعية القضاة كافة إلى المشاركة في جملة من التحرّكات احتجاجاً على "الانتهاك الصارخ لاستقلالية السلطة القضائية من قِبَل رئيس الجمهورية"، ومن بين هذه التحرّكات التصعيدية تعليق العمل في المحاكم يومَي الأربعاء والخميس، وتنظيم وقفة احتجاجية أمام "الأعلى للقضاء".

معركة مكتومة
لا يخفي سعيد سرّ معاداته للقضاة منذ توليه السلطة أواخر 2019. فعادةً ما يتوجّه في خطاباته إلى هؤلاء بدعوتهم إلى تحمّل مسؤولياتهم في محاسبة الفاسدين وتطهير البلاد من اللوبيات السياسية والمالية التي "تتعمّد تفقير الشعب". ويَعتبر سعيد أن العشرات من أعضاء مجلس النواب فازوا في الانتخابات التشريعية بعد ارتكابهم جرائم انتخابية لم تتصدّ لها المنظومة القضائية، نظراً لبطء إجراءات التقاضي والتدخُّل السياسي والحزبي في عمل القضاة، بخاصة من قِبَل حركة "النهضة" التي كانت موجودة في الحُكم طيلة العشرية الماضية، بالإضافة إلى قضية الاغتيالات السياسية التي لم يَبتّ فيها القضاء إلى اليوم، على رغم مرور تسع سنوات على اغتيال القياديَين شكري بلعيد ومحمد البراهي.
لا يخفي سعيد سر معاداته للقضاة منذ تولّيه السلطة في 2019


هذا التقييم لا ينفرد به الرئيس وحده، بل يشاركه في ذلك طيف واسع من السياسيين والحقوقيين والقضاة والمحامين، لكن الفارق في ما بين الفريقَين يكمن في أن سعيد يعتبر أن حلّ "الأعلى للقضاء" هو الخطوة "السحرية" التي ستفتح الباب على معالجة كلّ معضلات القضاء، بينما يعتبر الآخرون أن العلاج يتمثّل في تسهيل التقاضي، وتوفير المحاكمة العادلة عبر منْح صلاحيات واسعة للنيابة العامة وضمان استقلاليتها عن وزير العدل (الذي يرأس النيابة العمومية)، وعن الشرطة التي تتمتع بنفوذ وصلاحيات للتأثير في عمل النيابة وقضاة التحقيق، وهو ما يتعمّد سعيد إغفاله، صابّاً تركيزه على المجلس الذي يتحكّم بالمسار المهني للقضاة وترقياتهم، إضافة إلى الملفات التأديبية.
قد تبدو المواجهة اليوم منحصرة بين سعيد والقضاة، لكن المطّلع على الواقع التونسي منذ إعلان الرئيس التدابير الاستثنائية في 25 تموز الماضي، يدرك أن الأمر يتّصل بنظرة سعيد "الفريدة" لنظام الحكم، وموقفه من المكاسب الديموقراطية التي تحقّقت منذ انتفاضة 2011. صحيح أن طيفاً واسعاً من المجتمع ساند، ولو بتحّفظ، التدابير الاستثنائية، لكن سعيد لم يحسن استغلال تلك اللحظة التاريخية من أجل معالجة اختلالات التأسيس الديموقراطي، وبدأ يفقد حلفاءه شيئاً فشيئاً من أحزاب ومنظّمات وقطاعات مؤثّرة في البلاد، وها هو اليوم ينتقل إلى المواجهة المعلَنة مع القضاة، وسط توقُّعات بأن تكون المعركة التالية مع هيئات أخرى لعلّ أبرزها هيئة الانتخابات وهيئة الاتصال السمعي البصري.