تونس | تتزايد الملفّات الخلافية على طاولة الرئيس التونسي، قيس سعيد، فيما يقابلها هو بحلول تقليدية تخالف ما رفعه من شعارات حول استنباط الحلول الجديدة. ويبدو أن سعيد يعوّل كثيراً على صبر التونسيين واحتفائهم بـ»تصحيح المسار»، متغافلاً أو متناسياً مزاجية أبناء وطنه ورغبتهم في حلول سريعة من دون تضحيات تمسّ نمط عيشهم. ولا يضير فئة واسعة، ممَّن لم تذق، خلال العشرية الماضية، أيّ انتعاشة، ولم يصلها من غلال الثورة إلّا ترفيع متواصل في العبء الضريبي، أنْ تطال الإجراءات الحقوق السياسية والناشطين في الحقل السياسي، بفعل النقمة التي نمت، في العقد الأخير، على فئة لا ينفكّ الرئيس التونسي نفسه التأليب عليها ووصمها بالفاسدة والناهبة لقوت التونسيين. وهي نقمةٌ يعوّل عليها سعيد، ومنها يستمدّ مشروعية قراراته، ويركّز خطاباته - منذ 25 تموز الماضي - حولها، حتى أضحت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مسألة هامشية في النقاش العام، في ظلّ غياب أيّ رؤية للحلول والوسائل لتحقيق انفراجة اقتصادية يبدو التونسيون في أمسّ الحاجة إليها؛ فحتّى دعواته إلى التبرّع لخزينة الدولة والاكتتاب لفائدتها، لاقت رفضاً وتذمّراً من جانب قطاع واسع من المواطنين.
يبدو أن لا اختلاف في السياسات التي تتبعها الحكومة الحالية عن سابقاتها

وما يزيد من حدّة الانتقادات الموجّهة للقصر الرئاسي، وقوع سعيد في الفخاخ المنصوبة له؛ فأزمة النفايات الأخيرة في منطقة عقارب من محافظة صفاقس، جنوب شرقي البلاد، كانت أكثر من متوقعة، وكشفت بوضوح تعثّر السياسة الحكومية التي تقودها رئيسة الوزراء، نجلاء بودن، في استباق مَواطن التوتّر، وغلق الملفّات العديدة المفتوحة كألغام منتشرة في طريقها. فعلى مدى أكثر من شهرين، ظلّت صفاقس ترزح تحت نفايات لم يجرِ رفعها، لتتحوّل المدينة إلى مصبّ قمامة، وسط دعوات ملحّة من قِبَل الأهالي لم تستجب لها الحكومة. وانطلقت الأزمة فور صدور قرار رئاسي بإعفاء محافظ المنطقة الموالي لحركة «النهضة»، والذي ردّ على سعيد وحكومته بغلق مكبّ النفايات في منطقة عقارب، المنفذ الوحيد لتصريفها. ويذكر أن المكب المذكور صدر في شأنه حكم قضائي - منذ عام 2018 - بالغلق، بسبب مخالفته المعايير الصحية والفنية المطلوبة، لكن المحافظ تلكّأ في تنفيذه ليتدارك الأمر خلال الساعات الأخيرة قبل إعفائه. وبمجرّد اتخاذ حكومة بودن، قبل يومين، قراراً بإعادة فتح المكبّ المذكور، انطلقت تحركات احتجاجية تسبّبت بحرق مركز الحرس في المنطقة، فضلاً عن وقوع مناوشات بين الأمن والمحتجين أسفرت عن وفاة شاب خنقاً بالغاز المسيل للدموع. وإن كانت وزارة الداخلية أنكرت أيّ علاقة لحالة الوفاة بأحداث العنف، فإن الطب الشرعي أكد أن الوفاة نجمت عن انسداد في شرايين القلب لدى الفقيد المصاب أساساً بمرض قلبي. وتعهدت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب الملفّ، معلنةً، في بلاغ لها، متابعتها لحادثة «الموت المستراب» (وفاة غير طبيعية) وتحقيقها في حيثياته، على أن تُصدر لدى انتهاء التحقيقات، تقريراً في شأن الواقعة. ما تقدَّم يبيّن أن لا اختلاف في السياسات بين الحكومة الحالية وسابقاتها، ويؤكد هذا الاستنتاج أن منطقة عقارب لا تزال مطوقة أمنياً، فيما مُنع الأهالي من التوجّه نحو المكبّ لإغلاقه. وربّما ينحسر الاختلاف الوحيد في أن أذرع منظومة حكم «النهضة» خرجت للتنديد بالوفاة المسترابة وتطويق المنطقة، في حين قامت على امتداد عشرية كاملة بتبرير جرائم أخرى اعتبرتها من «إكراهات الحكم».
على خلفية هذه التطورات، أعلن «الاتحاد العام التونسي للشغل» رفضه لهذا التعاطي الأمني مع الاحتجاجات الاجتماعية، واعتزامه - في الفترة المقبلة - التركيز على الملفّات الاجتماعية (رفع الأجور في القطاعَين العام والخاص)، ما يعني أن جبهةً أكثر قساوة ستواجه حكومة نجلاء بودن في الأسابيع المقبلة، بالتزامن مع عرض مشروع قانون الموازنة للسنة المقبلة، وما سيحمله من إجراءات قاسية على التونسيين. وفي الوقت الذي تسعى فيه حكومة بودن - بتوجيه من سعيد ومستشاريه - إلى تطويق أزمة النفايات، تلوح أزمة أخرى طالما صنعت الفارق في الساحة السياسية، وهي أزمة الكامور (راجع الأخبار، 3 نيسان 2018، عدد 3434)، حيث سيجد سعيد نفسه أمام مأزق جديد، باعتباره من المساندين لهذه الجهة وطلباتها سابقاً. وإزاء تعثّر تنفيذ اتفاقات عام 2019، نظراً إلى ما تتطلّبه من سيولة مالية هائلة لإسكات الجهة المحرومة تنموياً، فإن قيادات اعتصام الكامور، أعلنت الاثنين الماضي، عودتها إلى التحرّك. ويرجّح أن تكون الفترة المقبلة، بما ستحمله من فخاخ ومطبات، حاسمة في عمر حكومة بودن ودرجة ثقة التونسيين فيها، وفي سعيد بصفته صاحب القرار الأخير.