حظي مسار الحلّ الليبي، منتصف تموز الجاري، بدعم دولي وعربي متجدّد، في ظلّ الصعوبات التي تُواجهها حكومة عبد الحميد الدبيبة في مواصلة هذا المسار، الذي يُفترض أن يفضي إلى انتخابات في 24 كانون الأول المقبل. وتجلّى هذا الدعم في بيان رئاسي صادر عن مجلس الأمن الدولي، حذّر من محاولات ما وصفها بـ»قوى الأمر الواقع» إعاقة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، داعياً «السلطات والمؤسّسات الليبية» إلى توضيح الأساس الدستوري للاقتراع. من جهته، حثّ الدبيبة، المجلس، على مساعدة بلاده في تأمين الانسحاب الفوري للمرتزقة والمقاتلين الأجانب، والنظر في تخفيف تجميده للأصول الليبية. وبعد ساعات من بيان المجلس، بادر الأمين العام لـ»جامعة الدول العربية»، أحمد أبو الغيط، إلى الاجتماع بالدبيبة في نيويورك، وتأكيد دعم الجامعة الكامل للحكومة الليبية في تطبيق خريطة الطريق السياسية، وصولاً إلى عقد الانتخابات في موعدها. وتُمثّل هذه التطوّرات غطاءً سياسياً مهمّاً لحكومة الدبيبة، يمكن أن تتبعه مواقف أكثر وضوحاً ثَبُت نجاح أمثالها سابقاً في منع مزيد من تدهور الأمور في ليبيا.
الدبيبة بين «النجاحات» والتحدّيات
نجح الدبيبة في القفز فوق انقسامات المشهد الليبي التقليدية، والالتزام بمسافات ملحوظة بعيداً عن التحيّزات الإيديولوجية والعسكرية، وحتى البراغماتية التي رسّخها التناحر الداخلي المدعوم بأجندات خارجية في محطّات فاصلة متعدّدة (ربّما كان أبرزها محاولة حفتر الاستيلاء على طرابلس والانقضاض على عملية سياسية طويلة كادت تفضي إلى تسوية ما، وآخرها مساعي جماعة الإخوان المسلمين إلى فرض مشروطيات مكلفة مقابل مواصلة الانخراط في العملية السياسية). كما نجح الدبيبة، وفق مراقبين، في الابتعاد عن حلفاء «حكومة الوفاق الوطني» السابقة (ومنهم الإخوان، الذين لا يُتوقّع أن يفوز الحزب الرئيس الذي يمثّلهم، أي العدالة والبناء، بأكثر من 20% من المقاعد، في أيّ انتخابات برلمانية مقبلة)، وضمّ منافسين لها في الشرق إلى صفّه.
كذلك، استطاع الدبيبة، إلى حدّ كبير، «تحييد» دور اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وهو ما تجلّى في مبادرة الأوّل، في منتصف تموز، إلى إعلان تكوين «غرفة العمليات الأمنية المشتركة» لتأمين جنوب ليبيا، والتي تضمّنت مهامّها فرض السيطرة الأمنية الكاملة على مناطق الجنوب، وتتبّع تحركات الجماعات الإرهابية، ورصد مسارات الهجرة غير الشرعية، «ومراقبة المجاميع المسلحة والوافدة من دول الجوار»، والتنسيق مع «المكوّنات الاجتماعية في الجنوب وإدماجها في الخطة الأمنية». قائمةُ مهامّ تستبطن جهداً للتضييق على تحرّكات حفتر في المنطقة، وإجباره على النكوص عن خطواته التي اتّخذها قبل شهر بالتحرّك العسكري في المنطقة الجنوبية.
يُمثّل تَحوّل وجود المرتزقة إلى جزء من شبكة مرتبطة بحكومات أخرى معوّقاً إضافياً أمام حكومة الدبيبة


يبقى في الوقت الراهن اختبار مهمّ للدبيبة، يتمثّل في مساعي إقرار الموازنة الليبية بعد تمسّك حفتر بضرورة «تخصيص حصّة» من موازنة الدولة لقوّاته، وإعلان عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، صراحة، بعد اجتماعه مع حفتر منتصف الشهر الجاري، أن المجلس لن يوافق على تمرير الموازنة من دون تلبية هذا المطلب. ويأتي ذلك وسط تحذيرات أممية من أن غياب «موازنة موحّدة» (إلى جانب انقسام المصرف المركزي) سيقود إلى انهيار كامل في النظام المصرفي الليبي، ويفاقم من تردّي الأحوال المعيشية في البلاد.
على المستويَين الأمني والعسكري، شدّد بيان مجلس الأمن الأخير على ضرورة خروج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا، في إشارة إلى وضع معقّد للغاية لا يزال يفرض تحدّياً رئيساً أمام حكومة الدبيبة، إلى جانب تحدّي إجبار الأطراف المسلّحة كافة على تسليم أسلحتها لوزارتَي الدفاع والداخلية، بعد حلّ الميليشيات، وتجفيف مصادر تمويلها، وإعادة تأهيل عناصرها ودمجهم في أبنية عسكرية وأمنية رسمية. لكن هذا المسار يظلّ صعباً للغاية، في ضوء عدّة معوّقات منها مواقف الجماعات المسلحة وفي مقدّمتها تلك الموالية لحفتر؛ والمرتزقة الذين تجاوز عددهم 20 ألف عنصر يتواجد أغلبهم في شرق ليبيا وفق تقديرات أممية، ويأتون من تشاد والسودان وسوريا وروسيا بشكل أساسي. ويُمثّل تَحوّل وجود المرتزقة إلى جزء من شبكة علاقات قوى مرتبطة بحكومات أخرى، معوّقاً إضافياً أمام حكومة الدبيبة، ولا سيما أن دولاً مثل روسيا وتركيا وفرنسا تستخدم هؤلاء المقاتلين والخبراء الفنّيين كأوراق ضغط لضمان حصصها في مشروعات إعادة البناء والموارد الطبيعية في ليبيا لاحقاً.

مقاربة واشنطن
من جهة الولايات المتحدة تحديداً، ثمّة تمسّك بعقْد الانتخابات الليبية في موعدها، من منطلق أن حكومة ليبية شرعية ستكون في وضع أكثر قوّة يُمكّنها من مواجهة الفاعلين الأجانب، في إشارة خاصة إلى المسلّحين الأتراك الذين تعتبرهم بلادهم «مدرّبين جاءوا إلى ليبيا بناءً على اتفاق مع حكومة مؤقّتة سابقة معترفاً بها من قِبَل الأمم المتحدة». لكنّ هذه المقاربة الأميركية تستبطن تفهّماً لهامش وجود العناصر التركية على وجه التحديد، كقوى معادِلة للعناصر الروسية والأجنبية الأخرى. على خطّ موازٍ، تمكّنت واشنطن، في ظلّ إدارة جو بايدن، من تقريب وجهات النظر الأوروبية تجاه ليبيا، على خلفية تمدّد النفوذ التركي، واضطراب السياسات الفرنسية (الأمر الذي يمتدّ إلى حضورها في إقليم الساحل الأفريقي المتاخم لليبيا)، والتخوّف الأوروبي من موجات جديدة من الهجرة غير الشرعية.

مستقبل ليبيا: رؤيتان متناقضتان
تحيط بالتصوّرات المتداولة لمستقبل ليبيا، دائماً، التجارب الفاشلة المتكرّرة لتسوية أزمة هذا البلد، منذ سقوط معمر القذافي في عام 2011. ويرى محلّلون أن الانتخابات المقبلة يمكن أن تكون مجرّد تكرار للانتخابات التي جرت في عامَي 2012 و2014، وأسفرت عن صعود حفتر وبداية «الحرب الأهلية» في ليبيا. وفي ظلّ توقّعات بصعود حفتر مجدّداً، لا يقدّم المجتمع الدولي أيّ ضمانات بأن مرحلة ما بعد الانتخابات ستُمثّل مستقبلاً آمناً لليبيا، فضلاً عن أن غياب الدستور يثير تساؤلات بخصوص القوانين الانتخابية التي ستُتّبع، وكيفية حسم الخلافات حول نتائجها، وشكل نظام الحكم في الدولة. وتملك هذه الرؤية المتشائمة أسساً نظرية وجيهة، لكن في المقابل، تظلّ الانتخابات الخيار الأكثر واقعية، علماً أن ثمّة إمكانية لتجاوُز الكثير من عقباتها القانونية، بالرجوع إلى آخر مخرجات «الملتقى الوطني الجامع»، الذي استند إلى عملية طويلة من المشاركة المجتمعية، شملت جميع مناطق ليبيا. وما يعزّز حظوظ الانتخابات، هذه المرّة، أن ثمّة حرصاً إقليمياً ودولياً على إنجاح تجربتها، يوازيه خفوت أصوات «الحرس القديم» امتثالاً للخطاب السائد وضروراته ومحاذيره.