انطلقت التظاهرات في تونس مع إقرار إغلاق شامل لأربعة أيام اعتباراً من الخميس الماضي، برّرته الحكومة باحتواء تفشي «كوفيد - 19»، في حين اعتبر مراقبون أنّ من بين دوافعه قبر الاحتجاجات المتوقّعة توازياً مع ذكرى سقوط نظام بن علي في 14 كانون الثاني/ يناير. يمكن تلخيص قراءة السلطات وغالبية الأحزاب للاحتجاجات العنيفة في توجّهين، يذهب الأول إلى إعلان تفهّم دوافعها والتنديد بأساليبها بوصفها «تظاهرات ليلية» و«تخريبية»، ومنه ما جاء في خطاب لرئيس الحكومة هشام المشيشي الذي وعد بـ«الاستماع إلى آراء الشباب». أما التوجه الثاني، فقد مال إلى اعتبارها «مشبوهة» أو حتى «مؤامرة». ولا تحديد هنا لطبيعة الشبهات أو أطراف التآمر، إذ وردت هذه الاتهامات الفضفاضة على لسان فاعلين من أحزاب السلطة والمعارضة على حدّ السواء، كلّ يرى أنّ لخصمه منافع من ورائها.
ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها تونس تظاهرات من هذا القبيل، فاعلوها ليسوا جهات منظّمة، وليلية في معظمها، كما تشهد أعمال عنف وسرقات وأبطالها مراهقون وشباب صغار من المناطق الشعبية التي تعاني ظلماً مركّباً (فقر اقتصادي وضعف في البنى التحتية التعليمية والصحية والثقافية والتنظيم الجمعياتي والنقابي والسياسي).
يمكن وصف هذا الشكل من الانفجارات الاجتماعية المفاجئة والعنيفة والمحدودة في امتدادها الزمني وتركّزها الجغرافي، بأنّها دورية. ورغم أنّها غير منتظمة في تواريخ رمزية محدّدة، إلّا أنّها تبرز خلال ذروة الأزمات بدرجات متفاوتة.

أزمة سلطة
توازت الاحتجاجات مع إعلان المشيشي عن تعديلٍ حكوميٍ واسع، شمل 12 وزارة، أبقى على الفلسفة العامّة للحكم، وهي التعويل على إدارة التكنوقراط. رئيس الحكومة نفسه شخصية تكنوقراطية، فهو إداري كان مسؤولاً عن تنفيذ السياسات قبل أن يجد نفسه، فجأة، مشرفاً على صياغتها. المشيشي ليس أول شخصية تكنوقراطية تتولّى الحكم في الأعوام الماضية، لكن التجارب السابقة أفرزت عللاً تعكس أزمة السلطة التي تعيشها البلاد.
يأتي السياسيون بهؤلاء الإداريين أو مسيّري الشركات السابقين بحجج من قبيل أنّهم «محايدون» سياسياً و«خبراء» و«أصحاب تجارب تسيير ناجحة»، وقادرون على الإدارة من دون ضغوط شعبية باعتبارهم غير منتخبين. يرى السياسيون أيضاً في هؤلاء أدوات طيّعة، يمكن التضحية بها في حال الفشل وحصد ثمار نجاحاتها إن تحقّقت.
تختلف الاحتجاجات الحالية عن تلك التي تشهدها تونس عادة


لكن يخلق ذلك انطباعاً لدى الناس بأنّ أصواتهم الانتخابية ذهبت سدى، وأنّ من يحكمهم لم ينتخبه أحد عملياً، وهو في قطيعة مع انتظاراتهم ويجهل كيفية مخاطبتهم.
يعيش هشام المشيشي حالة تيه، فقد اختاره للمنصب رئيس الجمهورية، منتصف العام الماضي، في سياق صراع مع الأحزاب الكبرى، لكنّه دخل في تحالفات مع تلك الأحزاب لأنّها تمثل الأغلبية داخل البرلمان، وهو الآن وجهاً لوجه مع شارع غاضب لا علاقة تربطه به، فمن المسؤول إذن؟ الجميع ولا أحد.
اقتصادياً، تعيش تونس أزمة دين سيادي متضخّم، وعجزٍ كبير في الموازنة مع تراجع مداخيل الدولة، وتُعطِّل الأزمة داخل أجنحة السلطة بروز أفكار وحلول. يؤدّي ذلك في اتجاه واحد إلى صعود القوى الفاشية. حالياً، يبدو المستفيد الوحيد سياسياً من الأزمة هو «الحزب الدستوري الحر»، سليل نظام بن علي، الذي يستثمر خاصة في مخاوف الطبقة الوسطى والبرجوازية وحنينها إلى الاستقرار (وهو يدين الاحتجاجات الحالية). ويشير آخر استطلاعات الرأي إلى حصوله على 41 في المئة من نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية.

«الإنسان المستباح»
تختلف الاحتجاجات الحالية عن تلك التي تشهدها تونس عادة، أي عن التظاهرات التي تتمّ في الأضواء وتنظّمها نقابات أو حتى «تنسيقيات» من المواطنين لهم مطالب دقيقة فئوية أو مناطقية. تخرج التظاهرات في الأحياء الشعبية في أنحاء البلاد مساء، ويشارك فيها شبّان صغار، وقد جرى خلالها قطعٌ للطرقات وحرقٌ للإطارات وتخريبٌ لبعض المنشآت التجارية الكبيرة والمصارف. تبدأ مثل هذه الأحداث عادة بشكل عفوي بعد حدثٍ قادح، كان هذه المرة جهود قوات الأمن لفرض حظر التجوّل والإغلاق الشامل، عبر التنقّل بين الأزقة ودفع الناس لالتزام بيوتهم، مع ما يرافق ذلك من إهانات في كثير من الأحيان. يشعر جزء واسع من هؤلاء الشبان بأنهم سجناء في الأوقات العادية، في أحيائهم التي يُضايقهم الأمن فيها، وتفاقَم الأمر مع الإغلاق.
يُتّهم هؤلاء بـ«ضعف الوعي» لعدم رغبتهم في احترام التدبير الصحّي التقييدي، لكنّ الواقع أعقد من مسألة وعي. يقوم أسلوب حياة كثيرين في المناطق الشعبية على التدبير اليومي للقمة العيش، خاصّة في المهن الصغيرة غير المنظمة، ولم تبذل الدولة جهوداً لمساندتهم خلال الأزمة، لا سيما في الموجة الوبائية الثانية.
غالبية العائلات في تلك المناطق واسعة، والبيوت صغيرة، والموارد الاقتصادية محدودة وتزداد ضيقاً مع إغلاق الفضاء العام الذي يعملون فيه، أو يمضي فيه الشباب العاطلون غالبية ساعات يومهم. غالبية هؤلاء الشباب انقطعوا أيضاً عن التعليم في سنّ صغيرة، ويفتقرون للتأمين الاجتماعي والصحّي، إضافة إلى افتقادهم لروابط علائقية تسمح لهم بتحسين وضعهم.
نتحدث هنا، إذن، عن أناس يقبعون في قاعدة السُلّم الاجتماعي، وإمكانيات صعودهم درجات فيه شبه منعدمة. لا مخارج كثيرة من هذا الوضع، بخلاف الهجرة غير المنظمة والجريمة، وقد كان الانضمام إلى التنظيمات الجهادية خياراً ثالثاً متاحاً قبل أعوام.
يمثل أفراد هذه الفئة «إنساناً مستباحاً» بعبارة الفيلسوف جورجيو أغمبن، عرضة للعنف اليومي من الشرطة وبقية الأجهزة الرقابية للدولة، خصوصاً مع حال الطوارئ القانونية المفروضة إلى ما لا نهاية على ما يبدو، وعرضة للتندّر والاحتقار والوصم السلبي من الأجهزة الأيديولوجية (المدرسة والتلفزيون وحتى شبكات التواصل الاجتماعي) ومن الإدارات الخدمية. يسود شعور بأنّ لا أحد يأبه لمصيرهم.
وتوجد نزعة إلى وصف الأحداث بأنّها «فوضوية» و«عدمية»، لكن عند الحديث مع المحتجّين أو سكّان الأحياء الشعبية بصفة عامة تتوضّح مطالبهم، فهم يريدون وظائف تحفظ كرامتهم ورعاية صحية وتعليماً ومعاملة لائقة. وَصفُ المحتجين بأنّهم «مخرّبون» و«مجرمون» وتوقيف المئات منهم في كلّ موجة عنف وتسليط أحكام قاسية بحقّهم لن يزيد الأمر إلا سوءاً.
أخيراً، يحاول البعض تصوير الأمر على أنه مسألة ثقافية ونتاج إساءة استعمال حرية لسنا جديرين بها، في حين أنّ للأحداث طابعاً طبقياً صارخاً لا خصوصية محلية له. في العقدين الأخيرين فقط، شهد عدد كبير من دول العالم أحداث عنف مماثلة أو حتى أوسع في النطاق والمدّة، بينها انتفاضة ضواحي باريس عام 2005 وأحداث نيو أورلينز عقب إعصار كاترينا في العام ذاته، وأعمال العنف والنهب في لندن عام 2011.