القاهرة | ليس الفراغ الذي يَسِم السياسة الخارجية المصرية منذ 2011 حتى 2014، وحده، السبب في الإخفاق الحادّ في طريقة التعامل مع الأزمة الليبية، التي شكّلت منذ اليوم الأول أحد أبرز الملفّات على طاولة مكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي مباشرة، وعبر اللواء عباس كامل (كان مدير مكتب السيسي قبل أن يصير وزيراً للمخابرات) الذي لا يزال يشرف على هذا الملف حتى الآن، بل أجرى زيارات بصفته مبعوثاً للرئيس ليحمل رسائل منه إلى أطراف الأزمة. صحيح أن هناك ثوابت مصرية في التعامل مع الأزمة منذ بدايتها، مثل رفض التدخل الأجنبي، لكن القاهرة صارت تتدخّل تارة وتتنحّى أخرى، وخاصة خلال المراحل الانتقالية، ما يشير إلى حالة من التخبّط إزاء البلد الجار. لكن منذ وصول السيسي، صار الملفّ بارزاً على أجندة الرئيس، وخاصة مع تلقّيه تقارير يومية عن التطوّرات في ليبيا، ليس حصراً بسبب تسلّل المتطرفين لتنفيذ عمليات في مصر وعودتهم عبر الشريط الحدودي الصحراوي فقط، بل لأسباب في مقدّمتها تحوّل الجارة الغربية إلى مصدر قلق أمني مباشر.زاد الاهتمام بعدما أثبتت التقارير تسلّل المتطرفين عبر الممرّات الصحراوية إلى شمال سيناء، ثمّ مع تشديد الإجراءات وإحكام الإغلاق في سيناء، صارت العمليات تستهدف العاصمة ومدناً أخرى في رحلة طريق السلاح، ولا سيما الوادي الجديد الحدودية والمدن القريبة منها على شريط وادي النيل، ما دفع الجيش والأمن إلى إحكام السيطرة على الحدود، بالتنسيق مع الجيش الليبي الذي عانى من تشرذم وصراعات. ومع أن تلك الصراعات لم تكن قد حُسمت بعد، راهن اللواء كامل على قيادة خليفة حفتر، على رغم معارضة عدد من القبائل. كان يمكن تجنّب تلك المعارضة بترشيح أسماء أخرى أكثر مقبولية، لكن كامل وثق بحفتر وفضّل دعمه على حساب منافسيه الذين جرى إبعادهم واحداً تلو الآخر بدعم مصري زاد الهوّة بين القاهرة والقبائل، فضلاً عن حكومة «الوفاق الوطني» بقيادة فائز السراج الذي لم يجد ترحيباً مصرياً مماثلاً لما وجده حفتر ورئيس البرلمان، عقيلة صالح، في البداية.
لمست «الوفاق» انحيازاً مصرياً كبيراً ضدّها، ليس بسبب التصريحات عن «دعم الجيوش الوطنية في البلاد العربية للحفاظ على وحدة الأراضي»، بل لأسباب أخرى في مقدّمتها سماح حفتر للقاهرة بلعب دور أكبر في الشأن الداخلي، وهو ما تزامن مع توجّهات تركية نحو استعادة العلاقات مع طرابلس، وأيضاً مقاطعة «الرباعي العربي» لقطر، لتُقرّر «المحروسة» القفز إلى مرحلة أخرى هي مساندة الشرق عسكرياً ومالياً مع الإمارات والسعودية لإحكام سيطرته على ليبيا. هكذا، دعمت مصر التمرّد على «الوفاق» بعد أقلّ من عامين على «اتفاق الصخيرات»، آملة إقصاء السراج ومن خلفه تيار الإسلام السياسي من المشهد كلياً. إلى جانب ذلك، ساندت تحرّكات صالح وحفتر، معوّقة جهود المبعوث الأممي السابق، غسان سلامة.
تقضي السياسة الجديدة باحتواء الأطراف الليبية كافة بمن فيهم ممثّلو الإسلام السياسي


أثناء هذه الخلافات التي استنزفت الليبيين، كانت القاهرة ومِن خلفها عواصم الخليج تدعم حفتر بقوة، وتدفعه إلى تعزيز قواته ليفرض وجوده على الساحة كطرف في أيّ معادلة سياسية أو عسكرية، وخاصة بعد تحالفه مع برلمان طبرق وتَحرّكه ميدانياً والميليشيات المتحالفة معه، ما عَطّل المسار السياسي كلياً. لم تجد «الوفاق» بديلاً من تركيا التي دعمتها بالسلاح والمال علناً، على عكس الدعم غير المعلَن من الخليج ومصر لحفتر باستثناء الحشد السياسي والإعلامي، لتقطع القاهرة أواصر الصلة مع طرابلس لأكثر من عامين، باستثناء بعض الاتصالات المخابراتية المحدودة. لم تفلح أبداً السياسة المصرية والخليجية في التعامل مع «الوفاق» لأسباب؛ أهمّها النفوذ الذي تتمتع به لدى قبائل عدة رفضت التخلي عنها، إلى جانب المساعدات غير المحدودة من أنقرة التي سعت إلى إثبات حضورها على الأراضي الليبية من أجل أهداف مستقبلية ارتبطت بالاقتصاد في المقام الأول، وتحديداً إنعاش خزائن البنك المركزي التركي التي عانت من تراجع حادّ.
على مدار أكثر من ثمانية أشهر، أخفق حفتر في السيطرة على طرابلس، على رغم أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إليها، وتحدّث عن ذلك مراراً. هذا الإخفاق لم يكن يتحمّله بمفرده، وإنما بسبب الأنظمة التي وقفت خلفه ورفضت أن تعلن دعمه بالسلاح، على غرار ما فعلت تركيا. أدركت مصر متأخّرة أن الحلّ العسكري لن يجدي نفعاً، وأن المفاوضات والانخراط فيها هما الحل، ما أعاد الوصال المقطوع مع «الوفاق» قبل «مؤتمر برلين» مطلع العام الماضي، ليستمرّ التواصل المتقطّع بين حين وآخر على مستويات أعلى، لكن القاهرة أخفقت في دعوة السراج إلى «إعلان القاهرة» الذي أعاد توحيد حفتر وصالح مجدّداً على قاعدة أن لديهما المطالب نفسها، بعد شهور من الجفاء.
كذلك، لم تنجح مصر في إقناع المجتمع الدولي بأن لا شرعية لـ«الوفاق»، لأن «الصخيرات» الذي تَمخّضت عنه هذه الحكومة لا يزال قائماً مع أن الهدف منه لم يتحقّق بعد، فضلاً عن أن اشتراط مدّة عامين للحكومة كان مرهوناً بمنحها الثقة من مجلس النواب، وهو ما لم يحدث حتى اليوم مع عجز المجلس عن الاجتماع بكامل تشكيلته منذ 2014، الأمر الذي يعني أنه مع غياب البدائل المطروحة للتسوية تبقى «الوفاق» ذات شرعية أمام المجتمع الدولي، حتى في ظلّ الضغوط العربية على أطراف عدّة؛ في مقدمتها فرنسا. وإلى جانب الإخفاقات السابقة، لم تفلح السياسة المصرية في الاستفادة حتى من أوقات الاضطراب والابتعاد التي تَسبّبت فيها أوضاع تونس والجزائر عن الملفّ الليبي. فحتى المباحثات التي تباشرها المبعوثة الأممية بالإنابة، ستيفاني ويليامز، تجري في تونس على رغم استضافة القاهرة جزءاً من المفاوضات العسكرية التي أفضت إلى وقف إطلاق النار بموجب «اتفاق جنيف» في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. لكن مصر، بسبب مواقف وتصريحات سابقة، بقيت وسيطاً غير محايد من وجهة نظر أطراف عدّة في ليبيا، ولا سيما مع معاداتها الواضحة للإسلام السياسي الذي يشكّل جزءاً من المجتمع لا يمكن إغفاله.
اليوم، تقف الدبلوماسية المصرية أمام سياسة جديدة في ليبيا تحاول بها معالجة إخفاقات السنوات الماضية، وهي قائمة على احتواء الجميع بما فيها تيّارات الإسلام السياسي و«الوفاق» التي قد يصل رئيسها إلى القاهرة في زيارة رسمية يستقبله فيها السيسي بعد زيارة سرّية نهاية العام الماضي، وسط محاولات لإعادة التموضع في ليبيا والتماهي مع مختلف الأطراف. وخلال الأسابيع الماضية، عَدّلت مصر خطابها الإعلامي تجاه طرابلس، فلم يعد وزير الداخلية هناك، فتحي باشاغا، «إرهابياً إخوانياً»، ولم يعد السراج رئيساً لـ«حكومة غير شرعية»، بل كلاهما وآخرون من قبائل الجنوب الليبي جرى استقبالهم والحديث معهم والاستماع إلى مطالبهم لدى المخابرات، في محاولة لتعزيز مسار الحلّ السياسي الذي بات الخيار الوحيد أمام القاهرة، بعدما كانت تعتقد بالحسم العسكري لأكثر من عامين دفع فيهما الليبيون أثماناً باهظة من ثرواتهم واستقرارهم.