الجزائر | في سيناريو لم يكن متوقعاً، أصدرت الرئاسة الجزائرية، في الأسبوع الأخير، مجموعة بيانات حول الحالة الصحية للرئيس عبد المجيد تبون، أحدثت جدلاً واسعاً، وأعادت إحياء هواجس الجزائريين الموروثة من حكم الرئيس السابق. وبدأت هذه الأخبار الرسمية بالقول إن الرئيس وَضَع نفسه في حجر صحّي طوعي لمدّة 5 أيام بعد التأكّد من وجود إصابات بفيروس كورونا في محيطه، ثمّ انتقلت إلى الحديث عن نقل تبون إلى أكبر مستشفى عسكري في البلاد بنصيحة من أطبائه، ثمّ انتهت إلى أن الرئيس سافر إلى ألمانيا من أجل إجراء فحوصات معمّقة وتلقّي العلاج. واللافت أن هذه البيانات لم تتحدّث عن طبيعة مرض تبون، ولا عن مكان استشفائه في ألمانيا، ولا عن مدّة بقائه هناك، ما ترك الباب مفتوحاً أمام العديد من التأويلات والأخبار المتضاربة. ويبقى احتمال أن يكون الرئيس قد أصيب بفيروس كورونا هو الأرجح، بالنظر إلى أن الرئاسة لمحت إلى ذلك في بيانها الأول الذي أعلن وجود عدّة إصابات على مستوى رئاسة الجمهورية، اضّطَرت الرئيس إلى وضع نفسه رهن الحجر الطوعي، وهو التفسير الذي تداولته أغلب وسائل الإعلام التي تناولت الخبر، في حين تعاطت القنوات الرسمية والخاصة بحذر شديد مع الموضوع.
ومما عزّز الاعتقاد بأن الرئيس يعاني من أعراض "كورونا" هو نقله إلى ألمانيا للعلاج؛ لكون هذه الدولة الأوروبية تُعدّ من البلدان الأكثر تطوّراً حتى الآن في معالجة مرض "كوفيد 19"، وتعتبر نسبة الوفيات فيها من بين الأقلّ في العالم. لكن أسباب النقل إلى ألمانيا لم تَخْلُ من بعد سياسي؛ على اعتبار أن الجزائريين ينظرون بحساسية بالغة إلى رحلات العلاج الطويلة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى فرنسا، ويرون فيها انتقاصاً من السيادة أمام المستعمِر السابق، وهو عامِل قد يكون الرئيس الحالي أخذه بعين الاعتبار في اختيار وجهة العلاج، بالنظر إلى التوقيت الحساس لمرضه المتزامن مع استفتاء الدستور، واحتفالات ذكرى اندلاع الثورة الجزائرية ضدّ المستعمر الفرنسي، وتدشين "جامع الجزائر" الذي يُعدّ أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين الشريفين، وهي كلّها أحداث كانت ستتعرّض لقراءة سلبية في حال انتقل الرئيس إلى مستشفى فرنسي.
لكن مهما كانت حسابات اختيار ألمانيا دقيقة، يبقى أن مرض الرئيس خلط تماماً حسابات السلطة في الجزائر، والتي كانت تراهن على تمرير استفتاء الدستور في ظرف أحسن، ولا سيما أن هذا المشروع تمّ تقديمه باسم رئيس الجمهورية في إطار تدشين عهد "الجزائر الجديدة"، وتحقيق مطالب التغيير التي دعا إليها الجزائريون. ووُجد حتى مَن طالب بتأجيل الاستفتاء الشعبي، لكون رئيس الجمهورية هو مَن سيُوقّع عليه حتى يكون ساري المفعول، وهو أمر لن يتحقّق في حال بقي الرئيس مدّة طويلة في العلاج خارج البلاد. لكن التأجيل يبدو مستبعداً تماماً، بل إن الاستفتاء انطلق فعلياً في مناطق الصحراء الجزائرية البعيدة، حيث يقطن البدو الرحّل.
الكتلة الثالثة المقاطِعة ترى نفسها غير معنيّة بهذا الاستفتاء


وكشف مرض الرئيس، من جانب آخر، سبب غيابه عن الحملة الانتخابية لاستفتاء الدستور في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وهو ما كان محلّ تساؤل من المتابعين، بالنظر إلى أن إلقاء الرئيس بثقله في حملة دعم الدستور كان بإمكانه إعادة الثقة إلى أنصاره الذين دخل جزء منهم في حالة شكّ بسبب وجود تيار رافض في الميدان للتعديلات، لاعتقاده بأنها تُهدّد هوية الجزائريين وانتماءهم إلى الحضارة العربية والإسلامية، على الرغم من تأكيد الرئيس ومحيطه في أكثر من مناسبة أنه لا مجال للتلاعب بالثوابت التي يُلخّصها الدستور بالإسلام والعروبة والأمازيغية.
وفي غياب الرئيس، تولّى الوزير الأول، عبد العزيز جرّاد، وأعضاء في الطاقم الحكومي، ومستشارون في رئاسة الجمهورية، ورؤساء أحزاب الموالاة القديمة، مهمّة الترويج للتعديل الدستوري ودعوة الجزائريين إلى التصويت عليه بـ"نعم". كما لوحظ نشاط قوي لرئيس أركان الجيش، الفريق سعيد شنقريحة، الذي أدلى بأكثر من خطاب يدعو فيه إلى إنجاح الاستفتاء. ولم تَخْلُ هذه الحملة من انزلاقات، كان أبرزها تصريح لوزير الشباب والرياضة، سيد علي خالدي، دعا فيه "مَن لم تعجبهم دسترة بيان أول نوفمبر إلى مغادرة البلاد". وقوبل هذا الكلام بردود فعل قوية من رافضي الدستور، استنكرت الخطاب المتعالي لهذا الوزير وطالبت بمحاكمته، وهو ما دفعه إلى الاعتذار والتوضيح بأن كلامه فُهم خطأً. كما لم يستسغ العديد من الجزائريين عودة الحرس القديم من مؤيّدي استمرار الرئيس السابق إلى الواجهة، وتنشيطهم خطابات يُبشّرون فيها بالتغيير. لكن أكثر ما أثار الجدل هو رفض منح قاعات للأحزاب الرافضة للدستور لتنشيط الحملة الانتخابية المضادّة، الأمر الذي اعتبره قادة المعارضة مؤشّراً سيّئاً في شأن احترام الحقوق والحريات التي سيحملها التعديل الدستوري.
ولم يأبَه المؤيّدون للدستور كثيراً لهذه الانتقادات، وامتدحوا في خطاب الإقناع المُوجّه إلى الناخبين وجود مواد جديدة تسمح للأغلبية البرلمانية - حتى في حال كانت معارِضة للرئيس - بتسيير الحكومة، وتُكرّس الحقوق والحرّيات بالمعايير الدولية، وتمنح المعارضة صلاحيات أوسع في البرلمان، وتنصّ على إنشاء محكمة دستورية لديها حق الرقابة على القوانين، إضافة إلى دسترة "بيان أول نوفمبر"، وهو وثيقة تاريخية مؤسِّسة للدولة، وأيضاً الحراك الشعبي الذي أطاح الرئيس السابق، في الديباجة. لكنّ الرافضين للدستور يعتقدون عكس ذلك، إذ يرون أن ثمّة تكريساً لهيمنة منصب رئيس الجمهورية على كلّ السلطات، واحتفاظه بصلاحيات واسعة عكس ما تعهّد به، وإفراغاً للسلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات من معناها باعتماد منطق تعيين أفرادها، فضلاً عن وجود تخوّف من إدراج مادة تسمح بإرسال قوات عسكرية إلى الخارج بعد موافقة ثلثي البرلمان، خلافاً للعقيدة العسكرية الجزائرية الرافضة لأيّ تدخل عسكري، وفق المعترضين. ويزيد أحزاب التيار الإسلامي على ما تقدّم وجود مواد تُمهّد لعلمنة المدرسة والمساجد، وتتيح التدخل في تنظيم الأسرة. أمّا الكتلة الثالثة المقاطِعة، فترى نفسها غير معنيّة بهذا الاستفتاء، لكونه يمثّل امتداداً لمسار الانتخابات الرئاسية المرفوض من الأساس، ويطالبون بإعادة مراجعة كاملة لخيارات معالجة الأزمة السياسية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا