أطلع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الأحزاب السياسية والنقابات وممثلي المجتمع المدني على مشروع أوّلي للإصلاح الدستوري بهدف التشاور معهم. أثارت هذه الصيغة الأولية، الناجمة عن عمل فريق من الخبراء المكلّفين من رئيس الدولة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، نقاشاً محتدماً في البلاد، خاصة في أوساط الخبراء الدستوريين. ويرى الباحث في مجال القانون الدستوري ماسينسين شربي أن الدستور الحالي وصيغة الإصلاح المقترحة لا يمثلان في الواقع سوى «نسختين معدّلتين لدستور سنة 1976، القانون الأساسي الأكثر سلطوية في الجزائر المستقلّة». أما الخبيرة الدستورية الجزائرية فتيحة بن عبو، فتبدي دهشتها من الحماسة التي يظهرها المتخصّصون عند مناقشة «مسودة» ستعدّل بالضرورة، مشيرة إلى أننا لم نصل بعد إلى المرحلة الأهم التي سيجري خلالها «حوار وطني معمّق يليه استفتاء شعبي».بالعودة إلى شربي هو يعتقد أن التغيير الجذري للنظام السياسي، انسجاماً مع مطالب الحراك، يتطلّب كذلك تغييراً للدستور، تماماً كما حدث في تونس، وليس مراجعة دستورية تتضمّن بعض الإصلاحات الطفيفة. «بعد أن أطاح التونسيون بالرئيس بن علي في 14 كانون الثاني (يناير) 2011، وبدلاً من انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتمتّع بصلاحيات هائلة طبقاً لدستور 1959 الاستبدادي، جمّدوا الأخير عبر المرسوم ــ القانون الصادر في 21 آذار (مارس) 2011. مكّنهم هذا المرسوم، الذي أضحى بمكانة الدستور المصغر، أي المرحلي، من تنظيم المؤسسات العامة خلال المرحلة الانتقالية. تم استبدال هذا المرسوم بالقانون الدستوري الذي صوّتت عليه الجمعية الوطنية، المنتخَبة ديمقراطياً، في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2011، وألغت في هذه المناسبة دستور 1959 وسنّت دستوراً صغيراً ثانياً تم العمل به حتى تبني الدستور الحالي في كانون الثاني (يناير) 2014»، وفق الباحث الجزائري. وهو مقتنع بأن السبيل الوحيد لتمثيل جميع التيارات السياسية في البلاد وتجسيد وحدة شعبها هو أن تقوم جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطياً على بلورة مشروع دستور أولي.
يحافظ المشروع الأولي للإصلاح الدستوري على صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية سبق أن منحها له دستور 1976. فالرئيس، وفقاً لشربي، «إضافة إلى احتفاظه بصلاحية تنظيم الاستفتاء حول الشؤون الدستورية والسياسية، يتمتّع بحق النقض تجاه القوانين التي يتبناها البرلمان، ويستطيع حل مجلس النواب في البرلمان (الجمعية الوطنية الشعبية)، وتعيين ثلث أعضاء مجلس الأمة فيه، وكذلك الولاة والجنرالات، من دون أي رقابة برلمانية أو حكومية. هو صاحب القرار أيضاً في مجالَي السياسة الخارجية والدفاعية. لا يترتب على هذه الصلاحيات الممنوحة للرئيس أي مسؤوليات سياسية أو قانونية ولا تمكن إقالته من منصبه».
على رغم أن المشروع المذكور يعزّز سلطة الوزير الأول عبر تسميته رئيساً للحكومة، ويزيد مسؤولية الأخيرة أمام البرلمان، فإن الأمر لا يتعدّى في نظر شربي البعد اللفظي. «رئيس الحكومة، منذ عام 1988، ليس مسؤولاً أمام البرلمان وحده بل أولاً أمام رئيس الجمهورية القادر على إقالته في أي لحظة، منذ عام 1976. أما مطلب الدولة المدنية الذي رفعه الحراك تعبيراً عن معارضته الدولة العسكرية، فلم يتم لحظه في أيّ من بنود المشروع الأولي. انطلاقاً من هذه الوقائع، يسهل الاستنتاج بأن غالبية التعديلات المقترحة ثانوية ولا تمسّ بالقلعة الرئاسية».
فضلاً عن ذلك، لم يحُل سماح المشروع الأولي بولايتين رئاسيتين لا أكثر دون زيادة سلطة الرئيس عبر استحداث منصب نائبه. فاستحداث مثل هذا المنصب، في رأي شربي، يتيح ضمان استمرارية النظام للدولة العميقة، لأن نائب الرئيس قادر على إنهاء ولاية الرئيس، في حال شغور منصبه لأيّ سبب من الأسباب، من دون الاضطرار إلى تنظيم انتخابات رئاسية. «على عكس نائب الرئيس الأميركي، الذي يُنتخب بالتزامن مع المرشح لمنصب الرئاسة، من يعيّن نائب الرئيس الجزائري هو الرئيس خلال ولايته، ما يمنحه القدرة على اختيار خلفه».
المشروع الأولي يُدخل تغييراً جذرياً على العقيدة العسكرية الجزائرية، عبر تمكين الجيش من المشاركة في عمليات حفظ سلام خارج حدود البلاد، وهو أمر أثار تساؤلات كثيرة مع أن تدهور الظروف الأمنية وتزايد التهديدات الإرهابية قرب الحدود قد يبرّران مثل هذا التغيير عند البعض. وبالإجمال، الخبراء الدستوريون لا يرون مسوغاً لـ«تضخم» عدد البنود الواردة في المشروع الأولي وعدد منها لا أهمية دستورية له.
وتجزم فتيحة بن عبو أن الصيغة المشار إليها ليست سوى مسودة ساهم في إعدادها عدد كبير من الاختصاصيين، وهي تبقى قابلة للتعديل. «تلتهب الحماسة وننسى أن الأهم هو الحوار المعمّق الذي سيمكّن الجزائريين من أخذ خياراتهم على بصيرة. في النهاية، لا بد من التشاور على نطاق واسع وإجماع الفاعلين حول الإصلاح». مع ذلك، رفض «ميثاق البديل الديمقراطي»، وهو تجمّع عريض يضم أحزاباً وجمعيات وشخصيات من المجتمع المدني، المشروع الأولي وطالب بصياغة دستور جديد. غير أن بن عبو تؤكد أن «الميثاق، لو وافق على مراجعة الدستور في عام 2019، لما كنا وصلنا إلى الحائط المسدود اليوم. سياسة المقعد الشاغر لم تعطِ شيئاً. هذه التنظيمات لم تدرك أنه ليس بالإمكان الحصول على كل شيء دفعة واحدة وأن الانتقال إلى التداول الديمقراطي على السلطة قد يتطلّب سنوات. السياسة هي فنّ الممكن. المهم هو القدرة على انتزاع التنازلات عندما تكون الظروف مؤاتية لذلك».