الجزائر | رغم الصيام والحر، لم يتخلف الجزائريون عن موعدهم الأسبوعي للتظاهر كل يوم جمعة، فقد غزت المسيرات كعادتها كل مناطق البلاد، في حين شهدت العاصمة استعادة لروح الأسابيع الأولى من الحراك، بفعل الأعداد الكبيرة للمتظاهرين منذ الساعات الأولى لصباح أمس. وإذا كان شكل وحجم التظاهرات لم يختلف كثيراً عن بقية أيام الجمعة، فإن مضمون المسيرات وشعاراتها عرف تطوراً ملحوظاً، باتجاه النقد اللاذع للموقف السياسي لرئيس أركان الجيش، أحمد قايد صالح، وطريقة تسييره المرحلة الانتقالية.ففي ساحة البريد المركزي في العاصمة، والشوارع الكبرى المحيطة بها، دوت هتافات تهاجم الرجل الذي رافق الاحتجاجات من سبيل: «دولة مدنية وليس عسكرية»، و«جمهورية وليس ثكنة»، و«قايد صالح إرحل»، و«قايد صالح رأس العصابة». كما رُفعت لافتات في محافظات أخرى تحذر قائد الجيش من التلاعب والتلهية بمسلسل الاعتقالات الجاري لبضعة رموز النظام السابق، وتخاطبه بعبارة: «قايد صالح، الشعب ليس ساذجاً». يعكس هذا الموقف اقتناعاً بدأ يترسخ لدى الجزائريين بأن قيادة المؤسسة العسكرية تُعرقل الوصول إلى حل للأزمة يُلبي مطالب الحراك الشعبي. ذلك أن قائد الجيش يؤيد ضمنياً مسار الانتخابات الرئاسية التي أُعلن تنظيمها يوم 4 تموز/ يوليو، وهي انتخابات تلقى رفضاً شعبياً واسعاً إلى درجة وصَفها متظاهرون أمس بـ«الخيار الانتحاري».
وينطلق المحتجون في رفضهم هذه الانتخابات من كونها ستُنظم بوجوه نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة نفسها، وفي مقدمهم رئيس الدولة المؤقت، عبد القادر بن صالح، ووزيره الأول، نور الدين بدوي. وقد زاد درجة الاستفزاز ظهورهما قبل يومين على شاشة التلفزيون الرسمي وهما يؤكدان التمسك بتنظيم الانتخابات في موعدها، ما يعني تجاهلاً تاماً للمسيرات الرافضة لهما منذ تنصيب بن صالح رئيساً للدولة في 11 من نيسان/ أبريل الماضي. ويعتقد قطاع واسع من الجزائريين أن استمرار هذه السلطة لم يكن ليتحقق لولا شعورها بالحماية من المؤسسة العسكرية، صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، وهو ما يركز دائرة الغضب حول قائد الجيش. لكن المدافعين عن المؤسسة العسكرية يتحدثون بمنطق آخر يقوم على أن قايد صالح لا يُريد أن يظهر بمظهر المتدخل في العملية السياسية، وهو يُشدد فقط على ضرورة احترام المسار الدستوري حالياً، الذي تفرض مواده تنظيم انتخابات في ظرف ثلاثة أشهر بعد استقالة الرئيس، وتعويضه مؤقتاً برئيس مجلس الأمة، ما أدى إلى تولي بن صالح الرئاسة.
ويُشدد أصحاب هذا الرأي على أن المؤسسة العسكرية في حال تغييرها المسار الدستوري ستُتهم بتنفيذ انقلاب، وسيكون لذلك ضرر كبير على الجزائر دولياً، ما يجعل البلاد تحت طائل ابتزاز القوى الكبرى. وفي كل خطاباته، يتحدث قائد الجيش عن مؤامرات خارجية بامتداد داخلي تستهدف البلاد، وهو كلام تتباين الرؤى حوله، إذ لم يصدر حتى الآن من القوى المعروفة بتأثيرها في المنطقة أي تصريح يدعم تنظيم الرئاسيات بعد شهرين، ويحذر من اعتماد حل سياسي يتجاوز الإطار الدستوري الحالي، ما يبعث المخاوف والشكوك من أن تكون فكرة «المؤامرة» الخارجية مجرد ذريعة يستعملها النظام القائم لإقناع المواطنين بالذهاب إلى الانتخابات بُغية إجهاض الحراك وتجديد النظام لنفسه عبر واجهة جديدة تبقى المؤسسة العسكرية هي المتحكمة فيها.
لم يتجاوب صالح مع حلول تستجيب لمطالب الشارع ضمن الدستور


وما يدعم الرأي الأخير عدم تجاوب المؤسسة العسكرية مع حلول طرحتها المعارضة بتكييف حل يستجيب لمطالب الحراك الشعبي ولا يخرج عن الدستور، عبر فتح حوار حول شخصية توافقية يتم تعيينها في منصب رئيس المجلس الدستوري تمهيداً لتسلمها رئاسة الدولة، بعد استقالة الرئيس الحالي وفق ما تنص عليه المادة 102 من الدستور، ثم العبور مع هذا الرئيس إلى مرحلة انتقالية قصيرة تجرى فيها تهيئة الظروف السياسية والتقنية لإجراء انتخابات رئاسية تعبر حقيقة عن إرادة الشعب. ويُطرح في هذا السياق أسماء؛ من بينها وزير الخارجية سابقاً أحمد طالب الإبراهيمي الذي شوهدت شعارات داعمة له أمس، ورئيس الحكومة في بداية التسعينيات، مولود حمروش، وهو شخصية تمتلك احتراماً واسعاً في أوساط النخبة المدنية والعسكرية.
وفي ظل عدم الاطمئنان إلى سلامة المسار السياسي بعد رحيل بوتفليقة، أصبحت حالة الشك ترافق كل القرارات الأخيرة، وخصوصاً المتعلقة باعتقال رموز النظام السابق والغاية منها. وتفجر نقاش كبير بعد إيداع المرشحة الرئاسية السابقة لويزة حنون الحبس المؤقت، بقرار من النائب العام العسكري، بتهمة «التآمر على سلطة الجيش وتهديد أمن الدولة»، في إطار القضية التي يتابع فيها شقيق الرئيس السابق ومستشاره الخاص سعيد بوتفليقة، ورئيسا جهاز المخابرات السابقان، الفريق محمد مدين، المدعو «توفيق»، واللواء بشير طرطاق، وتدور حول اتفاقهم على إقالة رئيس أركان الجيش الحالي، بعد رفضه وفق المتداول التدخل لقمع الحراك الشعبي. وتُعرف لويزة حنون، التي تتزعم حزب «العمال»، ذا التوجه اليساري، بعلاقاتها مع شقيق الرئيس السابق ومستشاره، السعيد، الذي كانت تلتقيه، كما تعرف بنبرتها العالية في انتقاد قائد الجيش الحالي وتدخله في السياسة، ما ولّد تضارباً في الموقف من قضيتها، بين من يعتبرها سجينة سياسية ضحية موقفها من قايد صالح، ومن يحسبها على ما يسمى بالدولة العميقة ويطالب بمحاسبتها. لكن الإشكال في أن اعتقالها لم يتبعه أي بيان يشرح أسباب متابعتها، ما ترك علامات استفهام كبيرة جعلت البعض يندد بـ«عدالة انتقامية» هدفها تصفية كل الأصوات المنتقدة، وخصوصاً أن الأمر يتعلق بمناضلة سياسية قديمة عرفت المعتقلات في عهد السرية، وهي اليوم تعود إلى السجن في ظروف غامضة.