القاهرة | مع استمرار الحرب في طرابلس، وانسداد أفق المعارك الميدانية، يسعى الطرفان، رئيس حكومة «الوفاق الوطني» فائز السراج، وقائد جيش شرق البلاد المشير خليفة حفتر، إلى تدعيم موقفيهما دولياً. وبينما أنهى الأول جولة أوروبية لم يحصد منها الدعم الكافي، حطّ الثاني في القاهرة للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي، الذي أكد دعمه له، ما يشي بأن طول أمد الأزمة بات أشبه بقرار خارجي.تتفق الدول الغربية على مواصلة الاعتراف بحكومة «الوفاق الوطني» رسمياً، ومواصلة دعم المشير خليفة حفتر سياسياً وعسكرياً ومالياً، عبر وكلائها في المنطقة، مصر والسعودية والإمارات. ورغم ذلك، تطالب في موقف شبه موحد وشديد العمومية، بوقف إطلاق النار، من دون الحديث عن أي ضمانات للحكومة المعترف بها دولياً. ففي حال أوقفت المعارك، ستبقى قوات حفتر في مواقعها التي سيطرت عليها في طرابلس، وهو ما لا تقبل به حكومة «الوفاق»، وخصوصاً أن تلك القوات قد تكرر محاولة اختراق العاصمة مرة أخرى في أي لحظة في ظل غياب الضغط الدولي المانع من ذلك. وقد تبين بوضوح عجز القوى الدولية عن ضبط حفتر، هذا إن لم يكن بعضها متواطئاً معه، وخاصة فرنسا، التي أشارت حكومة «الوفاق» بوضوح إلى تورطها في دعم الرجل، أو على الأقل التغطية عليه سياسياً. بناءً على ذلك، ترفض حكومة «الوفاق» مبدئياً وقف إطلاق النار من دون عودة قوات حفتر إلى مواقعها السابقة للهجوم، وهذا بالمناسبة أكثر المواقف اعتدالاً في محور غرب ليبيا، فثمة أصوات أخرى تدعو إلى غلق صفحة الحل السياسي نهائياً، وتتهيأ لشن حرب شاملة ضد حفتر، تمتد على كامل البلاد، إلى حين هزيمته.
من ناحيته، يبدو أن حفتر يواصل اندفاعه ميدانياً بقدر ما يستطيع، وبما يُمكِّنه، في حال فشل في اختراق محور العاصمة، من حيازة موقف تفاوضي صلب في البحث عن أي حل سياسي مستقبلاً. لكن عقارب الساعة بدأت بالعدّ التنازلي في غير مصلحته، فيما يزداد الشك لدى داعميه والمراهنين عليه إزاء قدرته على تحقيق المهمة، الأمر الذي قد يفضي في نهاية المطاف إلى تغير في الموقف الدولي، بما يستتبع تقليص الإمدادات العسكرية المُوجّهة إليه، ويوطّئ لإنهاء حالة الانقسام التي مثلت له الضوء الأخضر.
ما سبق بدا خلاصة تحركات خارجية لكل من السراج وحفتر، في محاولة من كل منهما لحشد دعم دولي ضد الآخر، وسط المعارك التي تراوح مكانها، والتي تشتد تارة وتخمد تارة أخرى. فالأول أنهى جولة أوروبية بدأت بإيطاليا الداعمة لحكومته من دون انتزاع موقف يطالب حفتر بالعودة إلى قواعده السابقة، وانتهت في بريطانيا التي كانت قد سعت إلى استصدار قرار من مجلس الأمن يدين الهجوم على طرابلس، من دون إزالة التحفظ الذي عكس تخبطاً ظهر واضحاً في تصريحات وزير الخارجية، جيريمي هانت، لصحيفة «ذي غارديان» قبل يومين، حين عبر عن رفض بلاده هجوم حفتر على طرابلس، ودعا في الوقت نفسه إلى حل سياسي لا يقصي أياً من الفاعلين. وما بين الزيارتين، لم يتمكن السراج من إقناع باريس بتغيير موقفها الداعم لحفتر، ولم يخرج سوى بموقف رسمي يناقض سياساتها على الأرض.
المطالبات الغربية بوقف إطلاق النار شديدة العمومية ولا تحمل أي ضمانات


أما حفتر، فقد وصل أمس إلى القاهرة، في زيارة ثانية منذ بدء الهجوم، حيث التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس المخابرات العامة اللواء عباس كامل. وقال مصدر مصري على اطلاع على تفاصيل الزيارة، لـ«الأخبار»، إن القاهرة أصبحت على عداء رسمي مع السراج، مضيفاً ان الحسم على الأرض في ليبيا لن يكون إلا عسكرياً خلال الأيام القليلة المقبلة، وإن حفتر حصل على دعم مصري لمواصلة العمليات، من أبرز مظاهره الاستمرار في إطلاق الطائرات التي تخرج من قاعدة محمد نجيب لـ«تنفيذ عمليات نوعية ضد الميليشيات». وأشار المصدر إلى أن القاهرة لم تفتح حواراً مع السراج خلال الأيام الماضية، بسبب «محاولته الاستقواء بأوروبا في مواجهة حفتر، واللقاءات التي أجراها في برلين وروما وباريس مع القادة الأوروبيين»، متابعاً أن «القاهرة متمسكة بدعم حفتر، ولن تقف على الحياد في الصراع في الفترة المقبلة». ولفت إلى وجود عمليات تنسيق مصرية ــــ أوروبية موسعة ارتبطت بالوضع في ليبيا، إذ طالب السيسي بضرورة دعم قوات حفتر للقضاء على الميليشيات المسلحة، وإعادة النظام للدولة الليبية، مع الحفاظ على الحوار الدبلوماسي لإنهاء الأزمة، متحدثاً عن تقارير رصدتها أجهزة المخابرات المصرية تضمنت دعماً عسكرياً من دول وشخصيات ــــ لم يسمّها ــــ للسراج خلال الفترة الماضية. واتهم السراج بأنه كان على علم بوجود طيارين مرتزقة تم الاتفاق معهم لاستهداف مخازن السلاح الخاصة بجيش شرق البلاد خلال الأيام الماضية، مشدداً على أن «مصر لن تقف مكتوفة الأيدي أمام مسألة حماية أمنها القومي، واستقرار الأوضاع في ليبيا، وخاصة مع الدعوة المصرية لإجراء انتخابات في ليبيا، مع المحافظة على وحدة الأراضي اللييية تحت قيادة موحدة يختارها الشعب الليبي عند إجراء الانتخابات».
هكذا، تستغلّ مصر، وحليفتاها السعودية والإمارات، محاولة العواصم الأوروبية المؤثرة في الملف إمساك العصا من وسطها، وتبنيها خطاباً شبه محايد وغير واضح خوفاً من غلبة طرف على الآخر، للحفاظ على مصالحها مستقبلاً. كما يستفيد هذا الحلف الثلاثي من تذبذب الموقف الأميركي الذي يعتريه تضارب بين تصريحات الرئيس دونالد ترامب، ومستشاره للأمن القومي جون بولتون، اللذين اتصلا بحفتر منتصف الشهر الماضي، وعبرا عن دعمهما لـ«جهوده»، من جهة، ووزير الخارجية مايك بومبيو، الذي دان الهجوم، من جهة ثانية. وهو تضارب لم ينهه الموقف المعدل الأخير الذي أطلقه ممثل واشنطن في مجلس الأمن، جوناثان كوهن، في جلسة عقدت الأربعاء الماضي، طالب فيها بوقف إطلاق النار، والعودة إلى المسار السياسي، على غرار الدول الأوروبية، بالإضافة إلى مطالبته بتسليم سيف الإسلام القذافي إلى محكمة الجنايات الدولية، وكذلك تسليم محمود الورفلي، وهو ضابط سلفي مدخلي يتبع قوات حفتر، نفذ إعدامات انتقامية موثقة لسجناء في الطريق العام.



الاقتصاد... جبهة «الوفاق» الجديدة

اتخذت «الوفاق» قراراً بوقف نشاط أربعين شركة أوروبية في ليبيا (أ ف ب )

في الأسبوعين الأخيرين، بدأ الصراع الدائر في ليبيا يتخذ أشكالاً أكثر تنوعاً، تتجاوز البعد العسكري. ولعلّ أبرز الجبهات الجديدة التي فتحتها حكومة «الوفاق» هي الاقتصاد، بوصفها المسيّر الحصري للمؤسسات الاقتصادية الرسمية. فبالتزامن مع جولة أوروبية لرئيسها فائز السراج، لا تبدو ناجحة، أصدر وزير الاقتصاد والصناعة، علي العيساوي، قراراً بوقف نشاط أربعين شركة أوروبية في ليبيا، بحجة انتهاء رخص النشاط، علماً بأن الجداول التي نُشرت مع القرار تظهر أن أغلب رخص النشاط منتهية منذ أعوام، بعضها من عام 2010. وبالتدقيق فيها، نجد أن أغلب الشركات فرنسية، وأهمها العملاق النفطي «توتال»، و«ألكاتال» المختصة في البنى التحتية التكنولوجية، و«إيفاج» للبنى التحتية الإنشائية، مع وجود بضع شركات ألمانية وإيطالية.
ويهدف القرار إلى تسليط ضغط على الأوروبيين لتعديل مواقفهم في اتجاه دعم حكومة «الوفاق»، مع عقاب خاص لفرنسا. لكن، توجد أيضاً إجراءات محلية أخرى مُوجّهة ضد حفتر، أبرزها قرار «مصرف ليبيا المركزي» وقف إصدار اعتمادات صرف عملة أجنبية، ووقف معاملات مالية أساسية لبنوك داعمة لخليفة حفتر في شرق البلاد، بدعوى وجود شبهة تبييض أموال قُدّرت بأكثر من 400 مليون دولار.
وفي الإطار نفسه، بدأت «المؤسسة الوطنية للنفط» شنّ حملة على محور شرق البلاد، إذ اتهم رئيسها، مصطفى صنع الله، في مقال نشره في وكالة «بلومبيرغ» قبل يومين، قوات حفتر بأنها احتجزت مسؤولاً نفطياً في منطقة الهلال النفطي، كما سخّرت مهابط طائرات وزوارق وموانئ تتبع المؤسسة في أعمال حربية (حاولت استخدامها في إنزال بحري قرب طرابلس من دون أن تنجح)، وتحدث عن وجود مساع لبيع النفط خارج إطار القانون.
(الأخبار)