تمثّل القبليّة أحد العوامل المهمة في الحرب الدائرة في ليبيا. فالفوز بولاء قبيلة يعني عملياً تحصيل دعم كتلتها البشرية، والسيطرة على الأرض التي تقطنها. منذ إطلاقه «عملية الكرامة»، عوّل خليفة حفتر على قبائل إقليم برقة لحسم المعركة لمصلحته، وهو اليوم يسلك السبيل نفسه منذ إطلاقه الهجوم على طرابلس، لكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة، وقد ينطوي على مخاطر طويلة الأمد.للقبيلة مكانة مهمة في ليبيا. حافظ عليها نظام معمر القذافي طوال أربعة عقود من حكمه، وتستمر الآن في أداء أدوار حاسمة. مع ذلك، يجب القول إن النزاع في ليبيا ليس قبليّاً في حدّ ذاته، بل هو مركّب من مسائل أيديولوجية ــــ سياسية ومظالم جهوية، لكن توجد نزعة لدى خليفة حفتر خاصة، لإذكاء العصبية القبليّة سعياً لتحقيق نصر عسكري.
عندما أطلق حفتر «عملية الكرامة» عام 2014، كانت مدينة بنغازي تشمل عدداً كبيراً من التشكيلات العسكرية، شاركت أهمّها في إسقاط نظام القذافي، ومجموعات أخرى متطرفة مثل «أنصار الشريعة» ولاحقاً «داعش»، وكانت الاغتيالات والجريمة متفشّية. سبب ذلك خطأ ارتكبته الحكومة في طرابلس، وهو عدم سعيها إلى تشكيل قوات نظامية تقليدية، بل عملت على استيعاب المقاتلين في أطر غير تقليدية، أطلقت عليها اسم «الدروع»، وهي تشبه ما كان موجوداً زمن القذافي.
لم تكن لحفتر مشاكل مع المقاتلين الذين أسقطوا القذافي، فهو نفسه كان أحدهم، وقد كرّمه عدد منهم مِمَّن قاتلهم لاحقاً، ولعل أبرزهم وسام بن حميد. يقول المحور المعارض لحفتر إنه أراد أن ينال منصباً رسمياً، ويؤدي دوراً في القوات العسكرية، لكن ذلك رفضته القيادة السياسية المتشككة في نياته. مع الزمن، تقول رواية المعارضين له، أن تدخّلت دول أجنبية في زرع فتن في شرق البلاد ميدانياً وإعلامياً، خاصّة مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، وتكشّف الأجندة الإماراتية ــــ السعودية.
من جهته، يقول حفتر إنه أطلق عمليّته للقضاء على الفوضى والتنظيمات المتطرفة. القوات التي ارتكز عليها الرجل حينها تمثّلت أساساً في سلاح الجو في شرق البلاد، و«القوات الخاصة» الموجودة منذ زمن القذافي، التي انضمّ إليها عدد من السلفيين المدخليّين، والتي كانت تعيش توترات مع «درع ليبيا 1» المتركز في الشرق. لم يكن ذلك كافياً لحسم المعركة، فلجأ حفتر إلى الطيران المصري والإماراتي، والقبائل، والسلفيين. عمل الرجل على تحصيل دعم قبائل العواقير والعبيدات، أهمّ التشكيلات السكانية المحيطة بمدينة بنغازي، والمنتشرة في أجزاء أخرى من شرق البلاد، وهي تشمل تفريعات عديدة.
أمدّت القبيلتان البدويتان حفتر بالمقاتلين، واكتشف حفتر أهميّتهما إلى درجة تعيين بلعيد شيخي منسّقاً للقيادات الاجتماعية لديه. استمرّ الحشد القبلي لاحقاً، حيث حصّل حفتر دعم قبيلة المغاربة القاطنة في أجدابيا، والتي يعمل أبناؤها في قطاع النفط وحمايته في الهلال النفطي، ما مكّنه من السيطرة على موانئ تصدير الطاقة من دون قتال تقريباً (كانت القبيلة تدعم سابقاً ابنها إبراهيم الجضران، لكنها تخلّت عنه لمصلحة حفتر). وجرت أيضاً استمالة قبيلة الزويّة في الكفرة جنوب شرق البلاد، ثم قبائل أولاد سليمان والقذاذفة وبعض تشكيلات الطوارق خلال الحملة الأخيرة للسيطرة على الجنوب.
الامتيازات التي تحصّلها القبائل قد تكون بلا قيمة أمام الخطر الذي يهدّد وحدة البلاد


بهذا، صارت قوات حفتر تشمل أقلية من القوات النظامية، ومقاتلين من القبائل خاضوا سريعاً تدريبات عسكرية، وسلفيين، ومقاتلين من شباب أحياء بنغازي، مرفودين بمرتزقة سوادنيين من حركات دارفورية. لكن «القلب النابض» لهذا التحالف يتمثل في القبائل والسلفيين، الذين لم يكن انخراطهم مع حفتر بلا ثمن. من جهة، تموقع السلفيون في مؤسسة الأوقاف، حيث صاروا يصدرون فتاوى، وكذلك في قوى الأمن، وقد سبّبوا كثيراً من الإحراج لحفتر عقب عمليات أمنية كانت أشبه بممارسات «الحسبة»، وقرارات من قبيل منع النساء من السفر دون محرم. أما القبائل، فقد نال أبناؤها قيادة الكتائب ومسؤوليات عسكرية عليا في قوات حفتر. لكن مقاتليها سبّبوا أيضاً إحراجاً للرجل، من خلال ممارسة أعراف قبلية لا تستقيم ضمن قوات عسكرية نظامية، من قبيل حرق بيوت عائلات مقاتلي خصومهم وتهجيرهم، وشنّ عمليات انتقامية ضدّهم، قادتْها خاصة، كتيبة تعرف باسم «أولياء الدم»، وتقول روايات إنها وصلت عقب بعض المعارك داخل أحياء بنغازي إلى حدّ التنكيل بجثامين في الطرقات، وحتى نبش قبور الأعداء بحثاً عن جثث بعينها، خاصّة جثة وسام بن حميد الذي تكتّمت عائلته لأعوام عن خبر مقتله.
مع ذلك، لا يجب حصر هذه الأعمال في قوات حفتر، حيث هجّرت قوات من مدينة مصراتة أيضاً سكان مدينة تاورغاء القريبة منهم بعد سقوط نظام القذافي مباشرة، وذلك لاعتقادهم أنها احتضنت قوات القذافي عند حصارها مصراتة لأشهر. كذلك، ارتكبت تشكيلات عسكرية أخرى انتهاكات بحقّ مجموعات سكانية للسبب نفسه. لكن، لم تدّع هذه الكتائب حينها أنها قوات نظامية، كما عملت مصراتة وبقية مدن الغرب على عقد مصالحات في الأعوام التالية، وإن لم يعد سكان تاورغاء مثلاً بأكملهم حتى الآن.

القبليّة وهجوم طرابلس
خلال هجوم حفتر على طرابلس بداية الشهر الماضي، عوّل على عاملين لحسم المعركة. أولاً، كان يعتقد أن سكان محور طرابلس المتنوعين الذين لا يسيّرهم المنطق القبلي، سيخرجون في تظاهرات لدعمه، نظراً لما يتعرضون له من تجاوزات على أيدي الميليشيات المحلية. ثانياً، عوّل حفتر على دعم القبائل المحيطة بطرابلس. لم يخرج الناس في تظاهرات داعمة، بل حصل العكس، حيث ندّد المتظاهرون بالهجوم. أما القبائل، فتباينت مواقفها وانقسم بعضها على نفسه. تحرّكت لدعم حفتر أغلب مكونات مدينتي ترهونة وغريان، وذلك لأنها ـــ وفق ما تقرّ به سلطات طرابلس نفسها ـــ ترى أنها على هامش السلطة، وتعاني من نقص في الخدمات والرعاية. حاول حفتر تحريك تشكيلات عسكرية في مدينة الزاوية أيضاً، لكن جرى احتواؤها سريعاً، كذلك حرّك السلفيين التابعين له في مدينة صبراتة، ونجح نسبياً في وضع يده على المدينة.
في المقابل، نجحت حكومة الوفاق في الاحتفاظ بولاء مدينة بني الوليد الجبلية والاستراتيجية، على رغم أنها كانت موالية للقذافي بشدة، ونجحت في استمالة مدينة الزنتان التي انقسم أعيانها حول الموقف من الهجوم، وذلك بسبب تولي عدد من أبنائها مسؤوليات أمنية في الحكومة، وأهمّهم قائد المنطقة العسكرية الغربية، أسامة جويلي. أما مدينة مصراتة، فهي تمثّل أحد أعمدة حكومة الوفاق، بما أن قواتها تنتشر في العاصمة وسرت، وأبناؤها يشغلون مواقع رسمية مهمة.
تحاول حكومة الوفاق الآن استمالة مدينتَي ترهونة وغريان، وهي تبذل جهوداً عسكرية واجتماعية في سبيل ذلك. لكن ما حصل ليس هيّناً، فقد سالت دماء، واتخذ الصراع منحىً قبليّاً، والصراعات القبليّة في ليبيا يصعب حلّها أحياناً، فقد امتد بعضها لعقود. يعرف حفتر ذلك جيّداً، فقد قال العام الماضي، خلال استقبال نظّمته قبيلة العواقير شرق البلاد، إنه «لو انتكسنا لدفعت هذه القبيلة ثمناً من عائلاتها ومن أنفسها ومن أطفالها ومن كبيرها وصغيرها». يراهن حفتر على نقطة اللاعودة، إذ تعلم القبائل أنها إذا انتصرت فستتمكن في فرض شروطها على المنهزمين، وإن انهزمت فستدفع ثمناً باهظاً.
مع ذلك، يعمل حفتر على قطع الطريق أمام محاولات الصلح التي تطرحها حكومة الوفاق والتشكيلات الاجتماعية في غرب البلاد على القبائل الموالية له، ويقدّم مزيداً من الوعود لأعيانها بمناصب وامتيازات. فقدت قبائل شرق البلاد آلافاً من مقاتليها في رحلة حفتر نحو السلطة، وتقدّم قبائل من الغرب الثمن نفسه الآن على حساب مسار الحل السياسي، أما الامتيازات التي حصّلتها وتعمل على تحصيلها فقد تكون بلا قيمة أمام الخطر الذي يهدّد وحدة البلاد، ويُنذر بصراعات ستمتد طويلاً.