كل الدول تتقاتل في ليبيا. وعلى الرغم من تغييب الأزمة الليبية، منذ أكثر من ثلاثة أعوام، إلا أن الواقع الأخير الذي تشهده يسلّط الضوء على العدد الكبير للاعبين الدوليين هناك، على اختلاف مصالحهم وأدوارهم المبهمة أو الواضحة، في تسعير القتال وتحريك اللاعبين المحليين، بما يخدم هذه المصالح. إيطاليا وفرنسا، عضوا الاتحاد الأوروبي، يخوضان حربهما الخاصة في هذا البلد الإفريقي. وفيما يظهر الخلاف بينهما واضحاً، عبر وجهات النظر المتناقضة والتصريحات الكلامية الهجومية، إلا أن ما يجمعهما هدف واحد قوامه البترول.
برز هذا الخلاف، في كانون الثاني الماضي، عندما اتّهم وزير الداخلية الإيطالي، نائب رئيس الوزراء، ماتيو سالفيني، فرنسا بأن ليس من مصلحتها استقرار ليبيا، مُرجعاً ذلك إلى أن لباريس «مصالح نفطية تتناقض مع المصالح الإيطالية». هجوم زعيم حزب «الرابطة» («رابطة الشمال» سابقاً) لم يتوقّف عند هذا الحد، بل عزا تدفق المهاجرين إلى حدود أوروبا بسلوك «البلد الجار» في إفريقيا، لأنه يوجد بالنسبة إليه «من يسلبون هذه الشعوب خيراتها، ومن الواضح أن فرنسا من بين هؤلاء». كلام سالفيني جاء في إطار استمرار حرب كلامية شهدت استدعاء وزارة الخارجية الفرنسية السفيرة الإيطالية، بعدما اتهم لويجي دي مايو، وهو نائب آخر لرئيس الوزراء الإيطالي، باريس بإشاعة الفقر في إفريقيا والتسبب في تدفق المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا.
الأمر لا يرتبط بالمهاجرين وحدهم. وبالتأكيد، لا يخفى على أحد أن ما يقف وراء التوترات العالية بين فرنسا وإيطاليا، مصالح مادية ملموسة في ليبيا، حيث تتقاتل عشرات الميليشيات، منذ الحرب التي شنّها «حلف شماليّ الأطلسي» في عام 2011، وحيث يقود عضوا الاتحاد الأوروبي حرباً بالوكالة، بهدف السيطرة على أكبر موارد النفط والغاز في إفريقيا. إلا أن نقطة التحوّل الأساسية، وفق مجلة «لو بوان» الفرنسية، كانت منذ وصول سالفيني إلى وزارة الداخلية، في حزيران الماضي، وما ظهر على إثر ذلك من خلاف كبير بشأن ليبيا، وضع روما في مواجهة باريس. بكلام آخر، لا يتعلّق الأمر بالمهاجرين الذين يغادرون الساحل الليبي إلى صقلية، ولكن أيضاً بالبترول، الذي تستغله شركة «إيني» الإيطالية تقليدياً في هذه المستعمرة القديمة، فيما يسود اعتقاد في روما بأن المناورات الفرنسية تخفي مشروع فرض شركة «توتال» بدل الشركة الإيطالية. نتيجة لذلك، تدعم كل دولة «مهراً» في حرب الظل الليبية، على حدّ تعبير المجلّة الفرنسية، التي تعزو تفاقم الأزمة إلى الخصومة الناشئة، على مدار أشهر، بين الرئيس إيمانويل ماكرون وماتيو سالفيني.
ما يقف وراء التوترات العالية بين فرنسا وإيطاليا مصالح مادية ملموسة في ليبيا


حتى الآن، لا تزال إيطاليا تدعم حكومة «الوفاق الوطني» برئاسة فايز السرّاج في طرابلس، فيما يأخذ كثيرون على فرنسا مأخذاً بسبب «موقفها الغامض». وبينما تشعر روما بالمرارة نظراً لواقع أن فرنسا تقود جهوداً دبلوماسية وغيرها في ليبيا، متجاهلة الدور الإيطالي في هذا المضمار، وصل البعض إلى حدّ الشكّ في أن لدى باريس نيّة لتنصيب خليفة حفتر رئيساً، أخذاً بالاعتبار سيطرته على غرب البلاد وغالبية الحقول النفطية. بناءً عليه، أشارت «لو بوان» إلى أن باريس تؤمّن لحليفها حفتر، المعلومات الاستخبارية المهمة والاطلاع التكتيكي، الذي يسمح له بالحد من قدرات الجهاديين في مدن الغرب. وتضيف أن القوات الفرنسية الخاصة والكومندوس التابعة لخدمة المديرية العامة للأمن الخارجي، تجمع في إقليم برقة المعلومات الاستخبارية، كما تدمّر خلايا «داعش». كذلك، ترافق العمليات التي يقوم بها جيش حفتر، «في مهمّات محفوفة بالمخاطر»، شهدت، عام 2016، مقتل جنود فرنسيين. في تلك الفترة، كان وزير الخارجية مصطفّاً مع المجتمع الدولي، الذي يعترف بنظام طرابلس، رغم أن وزارة الدفاع تدعم منافسه في بنغازي. فمنذ تسميته من قبل ماكرون، أعلن وزير الخارجية جان إيف لودريان أن «ليبيا بحاجة إلى بناء جيش وطني، بمشاركة كل القوى التي تحارب الإرهاب عبر البلاد، بما فيها تلك التي تنتمي إلى الجنرال حفتر، تحت إدارة السلطة المدنية».
إلا أن ما ركّز عليه العديد من وسائل الإعلام، في الفترة الماضية، كانت وثيقة صادرة عن «المؤسسة الألمانية للعلوم والسياسة»، التابعة للحكومة، ذُكر فيها أن فرنسا «وفّرت الدعم السياسي، وربما أشكالاً أخرى من الدعم لعمليات حفتر في الجنوب كما منعت شركاءها الغربيين من الإدلاء ببيانات مشتركة بشأن هذه المسألة». العديد من المراقبين مقتنعون بأن فرنسا مشغولة قبل أي شي بالمصالح النفطية، وأن المنافسة بينها وبين إيطاليا في هذا الشأن هي السبب الأساسي وراء الحرب الأهلية القائمة في ليبيا. وكما يقول وزير الخارجية السابق في حكومة طبرق محمد الدايري، في مقابلة مع الصحيفة السويسرية «تريبون دو جنيف»، فإن الأوساط المطلعة في ليبيا تربط القتال المسلّح بـ«المنافسة بين المجموعتين الإيطالية إيني والفرنسية توتال». هذا الأمر يتردّد على لسان الكثير من الخبراء، الذي يرون أن أساس الخلاف هو البترول، مؤكدين في الوقت ذاته أن من مصلحة العملاقين النفطيين، الإيطالي والفرنسي، بسط سيطرة حكومة ليبية موحّدة على حقول النفط، على أن تبقى المنافسة بينهما هناك، كما هي في أي بلد آخر.