استطاع العسكري الليبي القوي، خليفة حفتر، اغتنام لحظة تاريخية للانقضاض على حكومة «الوفاق الوطني» والسيطرة على كامل ليبيا، تمثلت بأربعة عوامل: أولاً، الحملة التي تقودها السعودية والإمارات على ما يسمى «الإسلام السياسي»، ولا سيما قطر وتركيا اللتان تربطهما علاقات قوية بالحكومة المعترف بها دولياً. وثانياً، حماسة «المحمدين»، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، لـ«اقتحام» هذه المنطقة (المغرب العربي والقرن الإفريقي)، بثورات مضادة تجهض الاحتجاجات المشتعلة في الجزائر والسودان، أو بتثبيت نفوذهما بقواعد عسكرية كما في الصومال وجيبوتي وإريتريا. وثالثاً، اقتراب نهاية الولاية الأولى للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يدعم توجهات حلفائه الخليجيين من دون النظر إلى تداعياتها الإقليمية والدولية، وإن كانت تخدم بعض سياسات روسيا والصين. وفي هذا الإطار، يريد حفتر استغلال عهد ترامب للسيطرة على ليبيا بضوء أخضر أميركي ودولي، قبل الدخول في انتخابات رئاسية أميركية غير مضمونة النتائج بعد ما يقارب عاماً ونصف عام. رابعاً، الموقف الدولي، خصوصاً الأوروبي المنقسم حول مستقبل البلاد، في ظلّ تقاطعات مصالح يعلم حفتر أن بمقدوره جذبها إليه إذا وضع فرنسا وإيطاليا أمام الأمر الواقع بسيطرته على كامل ليبيا.ولم تكن عملية «تحرير طرابلس» التي يقودها الرجل الطامح إلى حكم ليبيا منذ الانقلاب على النظام الملكي الليبي عام 1969، سوى حلقة أخيرة من سلسلة تحركات قادها في فترة سابقة، تحت عناوين محاربة الإرهاب وبضوء أخضر غربي (كان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، يشيد بها)، من شأنها منحه السيطرة على الجزء الأكبر من البلاد، وتمكينه من تطويق العاصمة، بعمليات ركزت على السيطرة على المدن وحقول النفط والقواعد العسكرية القديمة، بما لا يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وأوروبا، بل بما يخدمها أحياناً لناحية ضرب التنظيمات المتشددة والحدّ من الهجرة غير الشرعية، وهما أمران باتا ملخص مطالبات دولية كثيفة لحكومة السراج بضرورة تسويتها.
لم تكن العملية التي سبقت موعد عقد «الملتقى الوطني» برعاية بعثة الأمم المتحدة، الذي كان مقرراً منتصف نيسان/ أبريل الحالي، نتيجة انسداد مسار الحل السياسي في ليبيا. فما سبق الهجوم من حراك دبلوماسي للرجل والدول المعنية، ولا سيما الولايات المتحدة ومحور السعودية ـــ الإمارات ـــ مصر، يشي بأن إجهاض جهود الأمم المتحدة جاء في سياق مخطط للسيطرة على الجنوب وتطويق طرابلس تمهيداً للهجوم عليها. فقبل تحرك قوات عسكرية تابعة له نحو المنطقة الغربية التي تتبع «الوفاق» مطلع الشهر الحالي، بحجة «تطهير ما بقي من الجماعات الإرهابية»، وسيطرته على عدد من المدن والقرى في المنطقة الغربية، كانت الإدارة الأميركية قد عينت سفيراً جديداً لها في ليبيا نهاية الشهر الماضي، على رغم عدم انتهاء مدة السفير السابق، ما وضعه مراقبون في حينها في إطار اعتزام إدارة ترامب تنفيذ سياسات جديدة في البلاد، خصوصاً أن ذلك أتى بعد ثلاثة أيام على زيارة حفتر للسعودية بدعوة من المملكة، حيث اجتمع مع الملك سلمان وولي عهده وزير الدفاع محمد بن سلمان، وعدد من المسؤولين السعوديين، من بينهم رئيس الاستخبارات العامة، خالد بن علي الحميدان. وبحسب التسريبات التي خرجت آنذاك، أبلغ حفتر السعوديين استعداده لدخول طرابلس، وطلب منهم دعماً جوياً على غرار الدعم الإماراتي والمصري، بالإضافة إلى دعم مالي لحكومته المؤقتة في المنطقة الشرقية، التي تعتمد في تسيير ميزانيتها على القروض من المصارف الليبية، فيما أعلنت حكومة «الوفاق» قبل الزيارة بأسبوع ميزانيتها لعام 2019، بقيمة فاقت 28 مليار دولار.
وبدا قرار إجهاض المسار السياسي الأممي، قبل زيارة حفتر الرياض بشهر، حين عقد مع رئيس حكومة «الوفاق»، فائز السراج، اجتماعاً في أبو ظبي، بقي مضمونه حبيس الغرف المغلقة في أبو ظبي، والدوحة أيضاً، التي توجه السراج إليها بعد أسبوعين لإعلامها بنتائجه، فيما كان حفتر قد أعلن عن «تعزيزات عسكرية ضخمة... باتجاه المكان المعلوم والمحدد مسبقاً من قبل من قيادة الجيش»، كما جاء في بيان صادر عن مكتب إعلام القوات المسلحة التابعة له. ما يعني أن مضمون اجتماع أبو ظبي السلبي كان معداً له، بما لا يمهد لعقد «الملتقى الوطني» الذي ترعاه الأمم المتحدة. ويرجّح مراقبون أن تكون الإمارات نفسها وراء فشل الاجتماع لدفع حفتر إلى الهجوم على طرابلس.
وما يؤكد أن قرار الهجوم متخذ خارجياً، المواقف والمعطيات على الأرض خلال الهجوم وقبله. وهو ما لم تخفه حكومة السراج، إذ كشفت رسمياً عن جانب من هذا الدعم، الذي بدا أيضاً بموافقة أميركية عبّر عنها ترامب في اتصال مع حفتر يوم الجمعة الماضي، حين أشاد بدوره «المهم في مكافحة الإرهاب وضمان أمن موارد ليبيا النفطية» بحسب بيان للبيت الأبيض. وناقش معه أيضاً «رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسي مستقر وديموقراطي»، بعد أيام من عرقلة واشنطن مشروع قرار بريطاني في مجلس الأمن يُطالب بوقف فوري لإطلاق النار. أما ميدانياً، فبدا الترتيب الإماراتي والمصري المسبق في دعم حفتر عسكرياً في الهجوم، سواء عبر المشاركة بسلاح الجو، أو عبر إرسال قوات على الأرض، كشفت تسريبات إعلامية عن بعض جوانبها أخيراً، بالحديث عن أن الإمارات أرسلت قوات متخصصة بتسيير الطائرات من دون طيار، التي دخلت المعركة لأول مرة بعدة غارات جوية هزت العاصمة مساء السبت الماضي.