الجزائر | في تحوّل لافت في مواقفه الداعمة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أظهر رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع، الفريق أحمد قايد صالح، تحولاً مهماً في موقفه من الحراك الشعبي الرافض لاستمرار الرئيس بوتفليقة والمحيطين به في الحكم. التحول بدا تدريجياً، من تهديد للمتظاهرين في فيديو شهير تمَّ سحبه بعد تظاهرات 22 شباط/ فبراير، إلى إبداء تفهّم لحق التظاهر (لكن مع تحذير من العودة إلى «سنوات الجمر» أي الحرب الأهلية الجزائرية عام 1992) أدى وفق العديد من المراقبين إلى عزوف الرئيس عن الترشح لولاية خامسة وإلغاء الانتخابات، وصولاً إلى الإشادة بالشعب و«غيرته على وطنه»، أمس، في كلمة من محافظة بشار في الجنوب الغربي، حيث قال إن «الشعب الجزائري أثبت، في هذه الظروف الحالية، حسّاً وطنياً بل وحضارياً بالغ الرفعة، ينمّ عن وعي شعبي عميق أذهل الجميع في كافة أصقاع العالم».رسالة قايد صالح أمس مثلت دعماً واضحاً لمسيرات الجزائريين في الأسابيع الماضية، والتي ميّزها الإطار السلمي والتنظيم المحكم. ولم يتوقف رأس المؤسسة العسكرية الجزائرية عند معاني الإعجاب بالمسيرات، بل تعداها إلى تقديم ما يشبه ضمانات للمتظاهرين، بقوله إن الجيش سيكون حامياً لهم، وحديثه عن إمكانية إيجاد حلّ في أقرب وقت: «كل ذي عقل وحكمة يدرك بحسه الوطني وببصيرته البعيدة النظر، أن لكل مشكلة حلاً، بل حلولاً...، هذه الحلول التي نؤمن أشد الإيمان بأنها تتطلب التحلي بروح المسؤولية من أجل إيجاد الحلول في أقرب وقت».
وعلى غير العادة، أطنب رئيس أركان الجيش في الحديث عن «العلاقة الوطيدة التي تربط الشعب الجزائري بجيشه»، في حين خلت كلمته تماماً من أي إشارة إلى الرئيس، الذي تعوّد أن يخصّه دائماً بالذكر في أحاديثه، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع الوطني. وكان الفريق قايد صالح قد دأب على تكرار الحديث عن «إنجازات» بوتفليقة، وترديد مقاطع من رسائله في كل خطاباته التي يحرص التلفزيون العمومي على إبرازها بقوة. وتكرر هذا السلوك من الرجل القوي في الجيش، خلال الولاية الرابعة (2014-2019)، التي كان فيها الرئيس شبه غائب عن الساحة، كنوع من إظهار الولاء وتجديد الدعم له في كل مرة. وكان رئيس الأركان يحرص على النأي بالجيش عن أي تدخل في الشأن السياسي، وكان يردّ بعنف على كل الدعوات التي وصلته في السنوات الأخيرة للتدخل وفرض شغور منصب الرئيس بحكم تغييب المرض لبوتفليقة.
يرجّح مراقبون أن ينعكس موقف الجيش أمس بتنازلات أكبر من الرئيس خلال أيام


يدين قايد صالح للرئيس بوتفليقة بالكثير، فهو من عيّنه على رأس قيادة أركان الجيش سنة 2005، ثم أعطاه منصباً سياسياً بتعيينه نائباً لوزير الدفاع، ما مكّنه من حضور كل مجالس الوزراء. وتحوّل رئيس الأركان بفضل الصلاحيات الواسعة التي منحها إياه الرئيس إلى أقوى رجل في المؤسسة العسكرية، خصوصاً بعد تحييد مدير المخابرات الفريق محمد مدين، المدعو «الجنرال توفيق»، والذي يوصف بـ«العلبة السوداء» للنظام، من منصبه سنة 2015. ولم يكن رهان الرئيس بوتفليقة على رئيس أركانه خاطئاً، فقد وقف إلى جانبه في أصعب ظرف مرّ به عندما أصابه المرض في نيسان/ أبريل 2013، وأدى به إلى الغياب عن الوطن مدة طويلة للعلاج في فرنسا، ثم سانده عندما ترشح للولاية الرابعة في رئاسيات 2014، رغم أن المعارضة كانت تطالبه بالانسحاب نظراً إلى عدم قدرته على ممارسة صلاحياته.
لكن المعادلة اليوم يبدو أنها تغيّرت بفعل المشهد السياسي الجديد، بما يوحي باحتمال حدوث طلاق بين الرئيس ورئيس أركانه، وفق ما يرى مراقبون، يرجّحون أن ينعكس ذلك في الأيام المقبلة بتنازلات أكبر من الرئيس، الذي قد ينصاع أخيراً لمطلب الرحيل من منصبه بعد انتهاء ولايته في نيسان/ أبريل المقبل. لكنّ آخرين يرون أن قايد صالح يريد أن يسحب البساط من تحت جناح من النظام، يمارس ما هو أشبه بـ«انقلاب» على بوتفليقة، الذي لم يكتب بنفسه أي رسالة من رسائله وفق ما يعتقد هؤلاء. ويوضحون وجهة نظرهم بأن صناع القرار يعملون على تطبيق سيناريو الولاية الخامسة افتراضياً، وأنهم يريدون أن يعطوا ذلك «شرعية شعبية»، لعدم وجود اتفاق بينهم على خَلَف لبوتفليقة.
وبعد ساعات من كلمة قايد صالح، وجّه بوتفليقة رسالة ثالثة، بمناسبة احتفال الجزائر بـ«عيد النصر» الذي يصادف اليوم (19 آذار/ مارس من كل سنة)، أكدت أن موقف الرئيس ومحيطه ثابت على ما جاء في رسالته الثانية في الـ11 من الشهر الحالي، إذ جدّدت رسالة أمس تمسّك الرئيس بتنظيم «الندوة الوطنية»، التي سيتم على أساسها تغيير نظام الحكم والقوانين. وجاء في مقطع من الرسالة أن «هذه هي الغاية التي عاهدتكم أن أكرّس لها آخر ما أختم به مساري الرئاسي، إلى جانبكم وفي خدمتكم»، ما يعني عدم اقتناع الرئيس بجدوى الرحيل، وإصراره على البقاء عاماً كاملاً كما عرض في خارطة طريقه. لكن في خضمّ تسارع الأحداث الكبير وانقلاب المواقف، قد يضطر الرئيس، وفق ما يتوقع كثيرون، إلى إعلان انسحابه في أي لحظة، خصوصاً أن الدائرة بدأت تضيق أكثر عليه وعلى محيطه، الذي بدأت وجوه بارزة فيه ترسل إشارات تمايز، على غرار وزيره الأول السابق أحمد أويحيى، الذي أعلن أمس ضرورة الاستجابة فوراً لمطالب المواطنين، وهو معطى آخر يزيد من احتمالات رضوخ الرئيس لمطلب الرحيل سريعاً.