بعد إغلاقه في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، على يد ميليشيا عسكرية مدعومة من «حراك غضب فزان»، الذي يطالب بتوفير اعتمادات أكبر لجنوب البلاد، أعلنت «المؤسسة الوطنية للنفط» الموجودة في طرابلس، الإثنين الماضي، رفع حالة القوة القاهرة وإعادة تشغيل حقل الشرارة (ينتج حوالي 350 ألف برميل يومياً). وعزت المؤسسة القرار إلى «التأكد من خروج المجموعة المسلحة المسؤولة عن إغلاقه، والتي تسببت في خسائر في الإنتاج قدرها 1.8 مليار دولار أميركي»، مشيرة إلى أن شركة «أكاكوس»، المشغّلة للحقل، تلقّت من آمر وحدة حماية الأصول النفطية في الحقل، العميد الريفي كنه أحمد علي، تعهداً خطياً بخصوص «إبعاد كل الأفراد الصادر بحقهم أمر بالقبض من النائب العام».في واقع الأمر، كان خروج هذه الميليشيا ـــ منذ البداية ـــ المطلب الأساسي لرئيس مجلس إدارة مؤسسة النفط، مصطفى صنع الله، لإعادة تشغيل الحقل، لكنه لم يتحقق إلا بعد وقوع «الشرارة» تحت سيطرة قوات خليفة حفتر ضمن حملتها في الجنوب، وإثر تعيين الأخير، العميد كنه، مسؤولاً عن تأمين الحقل، ما يؤشر إلى مساومات سياسية.
مطلع الأسبوع الماضي، حلّت في العاصمة الإماراتية أبو ظبي ثلاثة من أبرز وجوه السياسة الليبية، حفتر وصنع الله ورئيس حكومة «الوفاق الوطني» ومجلسها الرئاسي فائز السراج. وعلى غير المتوقع، لم يجلس السراج وصنع الله باعتبارهما حليفين إلى حفتر، بل اجتمعا معاً واتفقا على إعادة فتح «الشرارة». بدا الاجتماع غريباً؛ إذ يعمل الرجلان جنباً إلى جنب في طرابلس، ولا توجد أي موانع لاجتماعهما في ليبيا، وقد فسّر البعض خطوتهما بأن رئيس مؤسسة النفط تعرض للضغط من المبعوث الأممي، الذي رعى لقاء أبو ظبي، للتراجع عن تعطيله إعادة فتح الحقل، لكنه أراد إخراج الأمر وكأنه ثمرة توافق بينه وبين السراج، فيما ذهب آخرون إلى أن حفتر اشترط إعادة فتح الحقل للجلوس مع السراج.
يوظف حفتر ملف النفط في صياغة علاقات دولية بعيداً عن العوائد المالية


ربما يكون كلا التفسيران صائبين؛ إذ من مصلحة المجتمع الدولي، أي دول الغرب المهيمنة، دفع إنتاج النفط الليبي إلى أقصاه، بالنظر إلى العقوبات المسلطة على إيران والأزمة التي تمر بها فنزويلا، للحفاظ على أسعار منخفضة. ويبدو ذلك واضحاً في النبرة التهديدية التي تتبنّاها هذه الدول كلّما تم تهديد حقول النفط أو موانئه، والتي تتجاوز بكثير مستوى الاهتمام الذي توليه لقضايا أخرى. إضافة إلى ذلك، التقى حفتر بالفعل بالسراج، بعد التعهد بفتح الحقل بيوم، لكن من دون التقاط صور للقاء كما جرت العادة.
لكن ما الذي يدفع حفتر إلى إعادة فتح الحقل الذي تستفيد طرابلس من عوائده المالية؟ في الواقع، تقوم استراتيجية حفتر في العامين الأخيرين على تثبيت سيطرته على أغلب موانئ النفط ومواقع إنتاجه، مع عدم استفادته مباشرة من موارده. فعلى رغم محاولته تسويق المحروقات عبر مؤسسة أُنشئت للغرض في شرق البلاد، إلا أن الأمر بقي ـــ برغبة دولية ـــ محتكَراً من قِبَل المؤسسة الوطنية للنفط الموالية لحكومة «الوفاق». لكن حفتر يرى عدة فوائد في بسط سيطرته عليها، فهي تمثل ورقة ضغط سياسية رابحة، وتسمح له بتصوير نفسه كسلطة أمر واقع قادرة على تأمين المنشآت الطاقية، ما يجعله طرف حوار ضرورياً لأي دولة تريد تأمين حقول شركاتها في البلاد، أو تسعى للتنقيب وبعث حقول جديدة.
توجد إشارات على توظيف حفتر ملف النفط في صياغة علاقات دولية. فهو ألمح إلى ذلك في حديث إلى صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، نهاية عام 2017، بالقول إن «فرنسا رافقتنا في هذا الصراع، تساعدنا... في الدفاع عن القضية العادلة، وهي شريك مميز لنا، ونعرف كيف سنعبّر لها عن امتناننا في المستقبل». كما سبق وأطلق رئيس أركان جيشه، عبد الرزاق الناظوري، تصريحات قال فيها إنهم سيوفرون شحنات نفط إلى مصر الداعمة لهم، وذلك عقب قرار شركة «أرامكو» إيقاف مخصصات نفط لمصر عام 2016.
مع ذلك، قد لا تكفي استراتيجية حفتر في منحه اليد العليا في البلاد. فلمحور غرب البلاد أسلحته واستراتيجيته المضادة، علاوة على تمتعه بحصرية تسويق النفط. ويحظى الفاعلون في الغرب بشرعية سياسية واعتراف دولي تولّد من اتفاق الصخيرات للمصالحة السياسية، ويسيطرون على «مصرف ليبيا المركزي» (رغم أن لحكومة شرق البلاد مصرفها أيضاً الذي يطبع العملة في روسيا). لكن الأهم من ذلك شرعيتهم «الثورية»، وارتكازهم على ثقلهم وكثافتهم الديموغرافية في مدن الغرب، واحتفاظهم بترسانة عسكرية ضخمة، ما قد يؤدي إلى حرب طويلة مدمرة في حال قرر حفتر التقدم إلى مناطقهم.