في إطار حركة احتجاجية لم تشهد مثلها البلاد منذ عشرين عاماً، يواصل الجزائريون احتجاجاتهم على مضي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الترشح لولاية رئاسية خامسة في الانتخابات المقررة في 18 نيسان/ أبريل، وهو القابع في السلطة منذ عام 1999. وبلغت الاحتجاجات ذروتها أمس، وأصيب خلالها 56 من عناصر الشرطة، فيما أُوقف 45 متظاهراً في مسيرات حاشدة شهدتها العاصمة، بحسب ما نقل التلفزيون الرسمي. وسرت، في موازاة ذلك، أنباء غير مؤكدة عن وفاة شخص، بعدما تخلّلت الاحتجاجات مواجهات في مكان غير بعيد من القصر الرئاسي، بين شرطيين وشبان رشقوهم بالحجارة. وشهد نحو ثلثي ولايات شمال البلاد، الأكثر اكتظاظاً، أيضاً، تجمعات احتجاجية، فيما لم تتمكن قنابل الغاز المسيل للدموع التي أطلقتها الشرطة بكثافة من وقف تقدم المتظاهرين.وعلى إثر تصاعد الاحتجاجات، تزامناً مع غياب الرئيس الموجود في جنيف لإجراء «فحوصات روتينية»، أصيب المحيط الرئاسي بالارتباك، وهو ما ظهر في تسجيل صوتي مسرّب لمحادثة بين مدير الحملة الانتخابية لبوتفليقة، عبد المالك سلال، ورئيس منتدى رؤساء المؤسسات، علي حداد، شكا فيه الأول من أن المحسوبين على الرئيس اعتراهم الخوف، وأن الوزراء أخلوا مكاتبهم. وكشف التسجيل عن تهديدات باستعمال السلاح وإطلاق النار على المتظاهرين.
لكن الارتباك بدا أكثر في طلب حداد من سلال، بحسب التسجيل، ضرورة الصمود ثلاثة أيام، حتى منتصف ليل الأحد المقبل، آخر يوم لتقديم أوراق الترشح الرسمية للمجلس الدستوري. لكن طائرة الرئيس عادت من جنيف أمس دون وجوده على متنها، كما أبلغ مصدر رسمي جزائري قناة «يورونيوز»، مشيراً إلى أن الرئيس استدعى، أول من أمس، مستشاره الدبلوماسي ووزير الخارجية السابق، رمطان لعمامرة، إلى جنيف، للتفاوض في إمكانية تعيينه رئيساً لوزراء البلاد.
لكن يبدو أن الجيش، صاحب الكلمة العليا في البلاد، دخل على خط الأزمة؛ إذ طلب قائد الجيش، أحمد قايد صالح، من الرئيس، البقاء في جنيف حتى يوم الأحد، بحسب مصدر القناة الأوروبية، ما يضع احتمال عدم حضور بوتفليقة قبل الموعد النهائي لتقديم الطلبات أمام المجلس الدستوري وارداً. إلا أن عضو أمانة الإعلام المركزية في حزب «جبهة التحرير الوطني» الحاكم، مالك بلقاسم أيوب، أكد أمس أن الرئيس بوتفليقة سيعود يوم الأحد ويقدم ترشحه.
ويعزز دخولَ الجيش على خط الأزمة سحبُ تهديد كان قائد المؤسسة العسكرية قد أطلقه ضد المتظاهرين قبل أيام، بفعل تحرك غير مسبوق لوزارة الدفاع، التي طلبت في وقت لاحق من كل وسائل الإعلام عدم نشر تهديد صالح. وبالفعل، سُحب مقطع التهديد من خطاب صالح من كل المواقع، بما فيها موقع الإذاعة والتلفزيون الحكوميين. لكن حتى الآن، لم يتضح ما إذا كانت لدى الجيش خطة بديلة لمرحلة ما بعد بوتفليقة، وتبقى المؤشرات على تحركه محصورة في أنباء غير مؤكدة.
وعلى رغم أن التعبئة بين المحتجين بدت أكبر مما كانت عليه الأسبوع الماضي، إلا أن الاحتجاجات الأضخم حتى الآن منذ ما سمي «الربيع العربي» قبل ثماني سنوات ليست وليدة اليوم، بل تأتي نتيجة لتراكمات بدأت مع ترشّح بوتفليقة عام 2014، حين شهدت البلاد وقفات محدودة، بعد إصابة الرئيس بجلطة دماغية عام 2013، منعته من الظهور على الملأ سوى مرات قليلة، وصولاً إلى إعلان ترشحه في 10 شباط/ فبراير الماضي، بعد شهور طويلة من التساؤلات التي ظلّت مطروحة بشأن ترشحه.
وبخلاف الكثير من الاحتجاجات التي شهدتها وتشهدها دول عربية أخرى، لا تزال التظاهرات في الجزائر تحافظ حتى الآن على عنوان واحد وعريض، بعيداً عن الوضع الاقتصادي أو أداء الحكومة أو مواقف النظام الخارجية، يتمثل برفض رهن السلطة بشخص الرئيس الذي سيكمل عامه الثاني والثمانين اليوم، فسحاً في المجال أمام قيادة جديدة قادرة على أداء مهماتها، بعدما بقيت البلاد تحت إدارة الرجال أنفسهم الذين تولوا الحكم بعد حرب التحرير ضد فرنسا في الفترة من 1954 وحتى 1962.
لكن مشاركة جميلة بوحيرد (84 عاماً)، التي تُعدّ من بين رموز الثورة الجزائرية في تظاهرات أمس، أعطت زخماً لهذا الحراك الشعبي المتصاعد منذ أيام، خاصة أنها قليلة الظهور في الأماكن العامة، وكذلك بسبب تقدمها في السن. فهي من بين الرموز القلائل الذين أعلنوا مواقف معارضة لفترة حكم بوتفليقة، وأعلنت في عام 2014 معارضتها ترشحه لولاية رابعة، كذلك سبق أن وجهت عام 2009، إليه وإلى الجزائريين، رسالة تشكو فيها من التهميش.