|على مدى الأعوام القليلة الماضية، سرت باستمرار أخبار عن قرب إطلاق القوات الموالية لحفتر حملة عسكرية للسيطرة على جنوب البلاد الواسع والمنفلت، لكن العمليات كانت في كل مرة محدودة النطاق والأهداف، وتتركّز خاصة على توفير موطئ قدم قرب بعض المدن أو الحقول النفطية، أو السيطرة على قواعد عسكرية قديمة. منتصف الشهر الماضي، أعلن حفتر إطلاق عملية واسعة لـ«استعادة» الجنوب، أعدّ لها بإرسال قوات من «الصاعقة»، ثم أمدّها بتشكيلات نظامية وأخرى مدنية «مساندة». أول الأخبار كان قتل 3 قياديين من تنظيم «القاعدة» في منطقة الشاطئ، من بينهم عبد المنعم الحسناوي، الذي تنتشر أخبار عن مشاركته سابقاً في الحرب السورية إلى جانب «جبهة النصرة»، وتقول مواقع إماراتية وسعودية إن له ارتباطات بقطر وتركيا. بعد ذلك، أعلنت «غرفة عمليات الكرامة»، الناطقة باسم قوات حفتر، قتل القيادي في «القاعدة»، عادل أحمد العبدلي، في سبها، أكبر مدن جنوب غرب البلاد.
سيطرة حفتر على الجنوب ستجعل الجزء الأكبر من ليبيا تحت نفوذه

لكن أبرز المعارك لم تحصل مع «القاعدة» والتنظيمات المشابهة، بل مع تشكيلات من المعارضة التشادية المسلحة، التي تورّط بعضها في أعمال ارتزاق مع جهات داخلية (ينطبق الأمر أيضاً على فصائل مسلحة من دارفور، وهذه يستعين بها حفتر بدرجة أولى). فجر أمس، تعرّضت «الكتيبة 128 مشاة»، المتمركزة في بلدة غداوة، لهجوم من قوات يقودها التشادي محمد حكيمي. استمرت المعركة سبع ساعات، وأدت إلى مقتل عنصرين من الكتيبة الليبية، من بينهم ملازم يرأس سرية الحماية. وللحكيمي، الذي تسري أخبار عن أن هجومه كان استباقياً لحماية معقله في بلدة أم الأرانب، تاريخ من العمل العسكري في ليبيا، حيث ورد اسمه في قائمة متهمين (أصدرها النائب العام في طرابلس)، شاركوا العام الماضي في الهجوم على الموانئ النفطية في وسط البلاد، تحت قيادة إبراهيم الجضران. إضافة إلى ذلك، ربطته وسائل إعلام إماراتية بالمعارض التشادي تيمان أرديمي، المقيم في قطر منذ عام 2009، والذي يشاع أنه ينسق معها تحركات قواته.

تطويق طرابلس؟
إضافة إلى القوات التي انطلقت من شرق البلاد ووسطها، أعلنت أيضاً «المنطقة العسكرية الغربية» الموالية لحفتر، والتي يقودها اللواء إدريس مادي، تحركها انطلاقاً من مدينة الزنتان وبعض المدن الأخرى، في إطار عملية «طوق الحمادة» التي تهدف إلى تأمين مثلث يحوي احتياطات ضخمة من الغاز والنفط، إضافة إلى الشريط الحدودي الغربي. لكن بعض المراقبين يرون أن المسألة تتجاوز مجرد التأمين كهدف في حد ذاته، ويضعونها في سياق محاولة تطويق طرابلس كخطوة أولى لدخولها. من الأدلة على ذلك، أنه تم، في سياق العملية، القبض على القيادي التشادي البخاري محمد البخاري، في منطقة السواني في ضواحي طرابلس، الأربعاء الماضي. ووفق وسائل إعلام مقربة من حفتر، يتعاون البخاري مع قوات آمر «المنطقة العسكرية الغربية»، التابعة لحكومة «الوفاق الوطني»، أسامة الجويلي، وقد استخدمه هذا الأخير في المدة الماضية ضد قوات «اللواء السابع» خلال اشتباكات طرابلس. علاوة على هذا التحرك المعلن، تنتشر أخبار عن وجود خلايا نائمة في ضواحي طرابلس والمدن المجاورة لها، على غرار الزاوية وورشفانة وبني الوليد، تنتظر تعليمات حفتر للتحرك. ومع أن من المستبعد أن يقامر حفتر بإطلاق عملية مماثلة غير معلومة العواقب، وخاصة أنه سيضطر إلى مواجهة تشكيلات مدينة مصراتة القوية والميليشيات الطرابلسية، إلا أنه في صدد تحقيق مكاسب مهمة.

أكثر من رهان
في حال نجح في السيطرة على الجنوب بأكمله، وهو أمر قد يتطلب وقتاً طويلاً وإمكانيات ضخمة، سيصير الجزء الأكبر من ليبيا ضمن منطقة نفوذه، ويحصر مجال حكومة «الوفاق الوطني» في الشمال الغربي وجزء محدود من الوسط. هذا الإنجاز، في حال بلوغه، سيدرّ على الرجل مزيداً من الدعم الدولي؛ إذ إنه بذلك يحقق هدف الولايات المتحدة في ضرب التنظيمات المتشددة، ويخدم الأوروبيين لناحية ضرب مسارات تهريب البشر وشبكاته.
داخلياً، ستسمح هذه العملية لحفتر بالسيطرة على أهم نقاط إنتاج النفط والغاز، بعدما نجح في استعادة السيطرة على أهم موانئ تصدير المحروقات، كما ستمنحه تأييداً شعبياً أوسع، خاصة مع معاناة سكان المنطقة الغربية من تنافس الميليشيات وحروبها المستمرة. لكن التحرك العسكري يؤثر على مسار الحل السياسي الذي تعمل بعثة الأمم المتحدة على تطبيقه. أمس، نقلت وكالة «رويترز» عن مصادر مقربة من البعثة أن «الملتقى الوطني»، الذي يفترض أن يجمع الفرقاء المحليين داخل ليبيا، يتجه إلى التأجيل بسبب غياب دعم كاف. وعلى عكس ما كان يتمنى رئيس البعثة، غسان سلامة، تسود المشهد السياسي حالة انقسام، حيث يسعى عدد من نواب البرلمان المتركز في شرق البلاد إلى إقرار قانون يحظر وجود جماعة «الإخوان المسلمون»، فيما يتمسك فاعلون غرب البلاد برفض أي دور لخليفة حفتر، الذي يعتبرونه مبشّراً بنظام حكم عسكري.