لم يمر تعليق رئيس «حركة النهضة»، راشد الغنوشي، عن جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي مرور الكرام. فقرتان فقط، من حديثٍ استمر ساعة، تناول فيه قضايا عدة خلال الندوة السنوية الثانية لحركته، يوم السبت الماضي، استرعتا اهتمام أهل الإعلام والسياسة في تونس. بدا الأمر غريباً للوهلة الأولى، لكن كلام الغنوشي عن الصحافي السعودي كان استثنائياً، بتشبيهه المناخ السياسي العالمي إثر جريمة خاشقجي، بالمناخ التراجيدي الذي ساد في تونس بعد حرق محمد البوعزيزي نفسه عام 2010، قبيل «الربيع العربي»، من ناحية «التعاطف الإقليمي والدولي، والنقمة ضد نظام الرئيس الأسبق» زين العابدين بن علي، الذي مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في هذا التشبيه.مع أن الغنوشي لم يذكر دولاً بعينها في خطابه، لكنه حوى إدانة مبطنة للنظام السعودي، من جهة، بقوله إن القضية «أيقظت الضمير الإنساني من سباته، من خلال رفض منطق المصالح السائد بين الدول»، ومدحاً للنظام التركي، من جهة أخرى، عندما أثنى على قوة الإعلام الحديث، الذي «خلق حالة انفلات وزلزلة وضغط على الحكومات، لتخرج الحقيقة إلى النور».
سريعاً، التقطت «حركة نداء تونس» هذا الخيط، وأصدرت بياناً، وقعه أمينها العام الجديد، سليم الرياحي، يستنكر تدخّل الغنوشي «في علاقات بلادنا الديبلوماسية، بما يمس من المصلحة الوطنية، ويرهن بلادنا ويقحمها في سياسة المحاور»، طارحاً مبادرة جديدة على «الطيف الديموقراطي التقدمي»، من أجل الحوار، «لتشكيل الحكومة وطبيعة التحوير الوزاري، من دون مشاركة حركة النهضة».
استُغل حديث الغنوشي محلياً، لتصوير «النهضة» على أنها «طائر» سياسي يُغرد خارج السرب «الوطني»، في محاولة لعزلها عن يوسف الشاهد، رئيس الحكومة المُجمد داخل هياكل «نداء تونس»، والمتحالف مع الإسلاميين. لكن التوظيف المحلي هذا، لم يكن من دون ربط إقليمي، إذ استقبل السفير السعودي في تونس، محمد بن محمود العلي، أول من أمس، وفداً رفيعاً عن «نداء تونس»، شمل رئيس الهيئة السياسية، حافظ قائد السبسي (نجل رئيس الجمهورية)، والأمين العام ورئيس الكتلة البرلمانية والناطقة الرسمية. وفي ضوء ذلك، خرج القيادي العائد حديثاً إلى الحركة، رضا بلحاج، على قناة «الإخبارية» السعودية الرسمية، معتبراً أن «النهضة انقلبت على الديموقراطية، مستعملة يوسف الشاهد لافتكاك السلطة من النداء»، وأنّها تمثل «خطراً على مكاسب تونس... ويجب تشكيل حكومة من دونها».
يحاول الغنوشي تعطيل محاولات تشكيل حكومة من دونه


يفتقر الحدثان الأخيران إلى أي سياق خارج حديث الغنوشي عن قضية اغتيال خاشقجي. لا يُمكن قراءتهما خارج مجال الارتباطات الإقليمية، فكما تعول «النهضة» على دعم محور قطر - تركيا، تحاول قيادة «النداء» إقامة ربط مع محور السعودية-الإمارات. في واقع الأمر، لم تكن «حركة نداء تونس» بعيدة عن ذلك المحور، فقد تلقى الباجي قائد السبسي، قُبيل انتخابات عام 2014، سيارتين مصفحتين من الإمارات، ووعود بدعم سخي في حال تم إقصاء الإسلاميين من الحكم، لكن ذلك لم يتحقق قط بعد تحالفه مع «النهضة». بعدها، طغت حالة من البرود على ارتباطات «النداء» بالإمارات ومحورها، وقد حاول قائد السبسي، بعد انتخابه رئيساً، تنظيم تبادل زيارات معها، إذ وجّه دعوة للإماراتيين، وحتى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لكنه لم يلق رداً إيجابياً، إلى أن توقفت محاولات التقرب المتعددة، عند زيارة قام بها لتقديم العزاء في وفاة نجل حاكم دبي، راشد بن محمد بن راشد آل مكتوم. لكن السعودية، حاولت في المقابل، الحفاظ على «شعرة معاوية» في علاقتها مع قائد السبسي، إذ قدمت نهاية عام 2015، هبة لتونس، تتكون من 48 طائرة من طراز «أف 5»، تم استخدامها الشهر الماضي في مناورات جوية مشتركة في البلاد. لكن «عسكرة» العلاقات هذه، لاقت تنديداً من جمعيات بارزة في المجتمع المدني التونسي، وسبقها تنديد واسع عند استقبال الملك سلمان لوزير الداخلية التونسي بداية هذا العام، وقد كان ذلك أحد أهم دوافع إقالة الوزير بعد حوالي ثلاثة أشهر.

«النهضة» تستشعر الخطر
لم تعتقد «حركة النهضة» أن يصل أثر تصريحات الغنوشي إلى تلك الدرجة، فبدأت سريعاً في التراجع عنها بإصدار بلاغ إعلامي، بعد ثلاثة أيام، ردت فيه على «نداء تونس»، بما «يُطيّب خاطر» حاكم الرياض محمد بن سلمان، إذ أكد أن الغنوشي «لم يذكر اسماً، ولم يشر إلى أي دولة»، وأن حركته ملتزمة بـ«السياسة الرسمية للدولة»، وحريصة «على تعزيز علاقات الأخوة والتعاون مع الشقيقة السعودية»، وعلى «أمن وسلامة المملكة» كما جاء في البلاغ، الذي كرر الغنوشي فحواه، أمس، في حوار مع وكالة «الأناضول» التركية، معرباً عن «أسفه إزاء قيام بعض الأطراف بتحريف كلامه»، بهدف «بث الفتنة بيننا وبين رئاسة الجمهورية، وبيننا وبين المملكة».
حاول الغنوشي وقف محاولات تشكيل حكومة من دون «النهضة»، بالطلب من سليم الرياحي «التهدئة والعودة إلى الحوار بين الحزبين»، بحسب ما كشف الأخير في حوار صحافي نُشر أمس، مؤكداً أنه قال للغنوشي إن موقفهم السياسي من الحكومة لم يتحدد بعد، ما يعني إمكانية التخلي عن دعم رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، الذي سبق أن اشترطت «النهضة» عليه التعهد بعدم الترشح في الانتخابات المقبلة، مقابل مواصلتها دعمه، ولم يُجبها بعد. لكن موقف «نداء تونس» لا يزال متصلباً حتى الآن، إذ قال الرياحي إنه من غير الممكن «التعامل مع حركة ما زالت تتمسك بالاستقرار الحكومي لضرب الاستقرار السياسي، والسيطرة على مفاصل الدولة»، معتبراً أن القطيعة مع «النهضة»، جاءت بناءً على «موقف استراتيجي»، على اعتبار أن «التوافق هو سبب الفشل الذي مرت به الحكومات المتعاقبة».
هكذا، أعاد تصريح الغنوشي إحياء تموضع «النهضة» الإقليمي، وأخرجها عن «الحياد النسبي» الذي تبنته في الأعوام القليلة الماضية، ما دفع بـ«حركة نداء تونس» إلى استغلال «زلّته» إقليمياً، لتتقرب من السعودية، وتربط حديثه برهان محلي، هو إخراج الإسلاميين من الحكم، وإطلاق مبادرة مُوجهة أساساً لرئيس الحكومة، ما يمثل تهديداً آخر لسياسة «النهضة» في البقاء ضمن دوائر الحكم، ولو بتمثيل وزاري رمزي أو محدود.