اللافت في القضية، أن قائد الناحية العسكرية الثانية، اللواء سعيد باي، تمكن من السفر إلى الخارج، لكنه سرعان ما عاد إلى البلاد فور علمه أنه ممنوع من السفر، الأمر الذي سبّب إقالة مدير أمن مطار هواري بومدين، الذي عوقب على خلفية مرور اللواء، كذلك سبّب إطاحة مدير صندوق الضمان الاجتماعي العسكري، اللواء بوشنتوف رميل، الذي أمضى للواء باي، منحة للتكفل في المستشفيات الفرنسية.
الإجراءات ضد العسكريين تضعف الرواية التي تضع التغييرات في إطار «عصرنة» الجيش
الإجراءات غير المسبوقة ضد العسكريين، تضعف الرواية الرسمية التي تضع التغييرات في الجيش والأجهزة الأمنية، في إطار سياسة «عصرنة» الجيش واحترافيته، من خلال التداول على مناصب المسؤولية، و«تشبيب» قادة المناصب العليا، بل أبرزت أن ثمة سبباً غير معلن، قد يعود إلى ملفات فساد تدين العسكريين المقالين. لكن في ظل «صمت» رسمي، واكتفاء وزارة الدفاع الوطني بإعلان تعيين القادة الجدد، ونشر خطابات رئيس أركان الجيش، نائب وزير الدفاع، الفريق أحمد قايد صالح، الذي سبق أن انتقد التأويلات السياسية والإعلامية التي تربط التغييرات العسكرية بالرهانات السياسية المتعلقة بالرئاسيات، يفرض التساؤل نفسه عن السبب في إبقاء المسؤولين المتهمين كل هذا الوقت في مراكز المسؤولية من دون ملاحقتهم قضائياً. سؤال، لم يلق إجابة رسمية، فتح الباب أمام فرضيات عدة، منها أن ثمة عملية «تصفية حسابات» في إطار الصراع على الرئاسيات المقبلة، تحت عنوان «مكافحة الفساد»، كشعار لإعادة ترتيب الأوراق قبل الاستحقاق الانتخابي، إذ يشير أصحاب هذا الطرح إلى أن العدالة في الجزائر لم تكن يوماً مستقلة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمسائل السياسية. لكن هذا الرأي، يبدو ضعيفاً في ظل عدم وجود أي مقاومة لهذه التغييرات داخل المؤسسة العسكرية. فالراجح وفق مصادر عدة، أن حركة التغييرات تجري باتفاق بين رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، ورئيس الأركان، قايد صالح، أي بانسجام تام بين القيادتين السياسية والعسكرية، علماً أن الرئيس دستورياً، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكل التغييرات العسكرية تجري بصدور قرار رئاسي منه.
تربط فرضية أخرى التغييرات العسكرية، بتداعيات قضية الكوكايين الأخيرة. فالمتهم الرئيسي في هذه القضية، هو كمال شيخي، المعروف بـ«البوشي»، المتهم بإدخال 701 كيلوغرام من المادة المخدرة إلى الجزائر. وأظهرت التحقيقات أنه نسج علاقات مع مسؤولين مدنيين وعسكريين، تجعل احتفاظ هؤلاء بمناصبهم أمراً مستحيلاً. وتشير بعض المصادر، في هذا الصدد، إلى أن رئاسة الجمهورية، هي التي أمرت بفتح تحقيق موسع حول العديد من المسؤولين، الذين بدت عليهم علامات الثراء الفاحش، وهو ما تلقفته وزارة الدفاع الوطني، التي حركت القضاء العسكري لمواصلة التحقيق. وعلى الرغم مما يُثار عن علاقة الصداقة التي تربط الضباط المقالين، سواء مع رئاسة الجمهورية، أو مع رئيس أركان الجيش، إلا أن أمر الإبقاء عليهم في ظل الاشتباه في تورطهم في قضايا فساد، يبدو مستحيلاً، خاصة أن قضايا الفساد أصبحت تثير استياءً عارماً في أوساط الجزائريين، ما عجل بأمر إطاحتهم، وعزّز من راية «مكافحة الفساد» في هذه المرحلة، التي تتطلب خطاباً جديداً يمكن الرئيس بوتفليقة من استمالة الجزائريين قبل 6 أشهر من الانتخابات.
في المقابل، ما يقلّل من فرص تلك الفرضيات، أن الرئيس لم يفصح حتى الآن، عن نيته الترشح لولاية رئاسية خامسة، كما يطالبه أنصاره، وهو معطى مهمّ بإمكانه تفسير مدى ارتباط هذه التغييرات العسكرية بالرئاسيات، ذلك أن ترشح بوتفليقة، رغم متاعبه الصحية الكبيرة، يعدّ الخيار الآمن بالنسبة إلى منظومة الحكم، لأنه سيوفر مرحلة هادئة للبحث عن بديل، فعدم ترشح بوتفليقة، قد يفتح الباب أمام صراع كبير على السلطة من داخلها، تجبر المؤسسة العسكرية على أن تكون طرفاً فيه، لأنها تبقى جزءاً أساسياً، وفق قراءة العديد من الأحزاب والشخصيات الوطنية، في صناعة القرارات السياسية الكبرى في البلاد، خاصة في ما يتعلق باختيار رئيس الجمهورية، فيما تبدو نداءات المعارضة لتغيير النظام الانتخابي، وإنشاء هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات، بعيدة المنال، في ظل إصرار السلطة الجزائرية على إبقاء الوضع على ما هو عليه.